إرفينغ كريستول، الكاتب الصحافي والأستاذ الجامعي والمفكّر، توفي يوم الجمعة الماضي بعدما أمضى جزءاً كبيراً من حياته منظّراً للمحافظين الجدد
جمانة فرحات
لعلها مصادفة أن تترافق وفاة عرّاب المحافظين الجدد، الجمهوري إرفينغ كريستول، مع فشل سياسات تياره وتراجعها، بعدما مثّلت سنوات حكم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش عصرها الذهبي وحقل تجاربها، ولم تنجُ من تطرفها العديد من الدول، وفي مقدمتها العراق وأفغانستان. وعايش كريستول، المولود في نيويورك في عام 1920 لأبوين يهوديين مهاجرين، حقبات مختلفة من التاريخ العالمي على مدى 89 عاماً انعكست تحولات في هويته السياسية وأسهمت في تنصيبه عراباً للمحافظين الجدد.
وبعدما كان يعرِّف عن نفسه بأنه شيوعي تروتسكي ومن أعضاء «رابطة الاشتراكيين الشبان»، أسهمت الحرب العالمية الثانية ومشاركته فيها جندياً في سلاح المشاة في تحوله إلى معادٍ للشيوعية بصفته ليبرالياً. إلا أنه سرعان ما ابتعد عن ليبراليته التقليدية، مانحاً نفسه لقب «الليبرالي المصدوم بالواقع»، وواصفاً حركته بأنها «حركة سياسية وفكرية لليبراليين السابقين الساخطين مثله»، ومفضلاً إطلاق لقب «تيار القناعة» عليها.
واتخذ كريستول، الذي درس التاريخ، من الدوريات وسيلة ناجحة لنشر أفكاره، انطلاقاً من إيمانه بأهمية الأفكار وقوتها التأثيرية. عمل في البدء محرراً ثم مدير تحرير مجلة «كومنتري»، ثم أسس في لندن، بمساعدة ستيفن سبندر، مجلة «إنكونتر»، قبل أن ينشئ في عام 1965 بالتعاون مع دانييل بيل دورية «المصلحة العامة»، التي تبيّن لاحقاً أنها كانت تتلقى تمويلاً من وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه». كذلك شغل أيضاً منصب أستاذ محاضر عن القيم في جامعة نيويورك منذ عام 1969 حتى 1987.
وأصدر كريستول، الذي عملاً أيضاً نائب مدير إحدى دور النشر، عدداً من الكتب: منها: «حول فكرة الديموقراطية في الولايات المتحدة»، و«تيار المحافظية الجديدة: السيرة الذاتية للفكرة».
وانعكاساً لدوره البارز في بثّ أفكار المحافظين، ظهر كريستول في عام 1979 على غلاف مجلة «ايسكواير» بصفته «عراب أقوى قوة سياسية جديدة في أميركا». أفكاره عن السياسة الخارجية ومعارضته لـ«عدمية» الليبرالية ودعمه لإسرائيل ظهرت بوضوح في مقالاته التي نشرها في أشهر الصحف الأميركية، وفي مقدمتها «وول ستريت جورنال»، و«ذي ناشيونال إنترست»، وفي كبرى مراكز البحث الأميركية الداعمة لليمين. وكتب كريستول، الذي كان يفضّل التوجه إلى جمهور النخب في عالم السياسة والاجتماع والثقافة، منتقداً المؤسسات الدولية. وقال، في مقالته «قناعة المحافظين الجدد»: «إن الحكومة العالمية أمر مكروه، لأنها قد تؤدي إلى الطغيان العالمي، وإن المؤسسات الدولية التي تشير إلى حكومة عالمية في المدى النهائي، يجب أن ينظر إليها عميقاً». وعبّر عن نظرته للعلاقات بين أميركا وحلفائها من خلال رأيه في حرب

إذا أراد الله أن يدمر شخصاً جعله يحاول إيجاد تسوية للصراع العربي ـــ الإسرائيلي

فييتنام، الذي أعلنه في كتابه «الطوباوية والسياسات الأميركية»، حيث أكد «أن غزونا كان يهدف إلى إقامة نظام صديق... وإذا كان مثل هذا النظام يفضّل الانتخابات الفاسدة بوصفها نوعاً من الدكتاتورية العسكرية...، فإن ذلك شأنه. وهذا الأمر لا يمثّل أي مشكلة». وامتاز كريستول بعمله من خلف الكواليس، ما جعل خبير الاقتصاد غود وانسكي يصفه بـ«اليد الخفية لحركة المحافظين الجدد»، ضارباً مثلاً على ذلك الدور الذي أداه كريستول في دفع السيناتور جاك كمب لإقناع الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان بالمفاهيم الجديدة المرتبطة بنظريات العرض في الاقتصاد. وشهد عهد ريغان بداية تغلغل أنصار تيار كريستول في مراكز القرار الأميركي، وفي مقدمتهم بول وولفويتز ووليام بينيت وريتشارد بيرل وإليوت أبرامز، قبل أن تصل سيطرتهم إلى أوجها في عهد جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني.
وقلّده بوش كريستول في تموز 2002 الوسام الرئاسي للحرية، بوصفه «مفكراً واسع الأفق، ساعدت كتاباته في تحويل المشهد السياسي الأميركي». وأسهم الخطاب الذي أدلى به بوش في السادس والعشرين من شهر شباط 2003، قبل أيام من انطلاق الحرب على العراق، في تسليط الضوء على دور كريستول في هذا المجال بقوله للعراب أمام الحاضرين: «أشكرك على دورك القيادي». ولكريستول علاقة مميزة مع إسرائيل، عبّر عنها منذ عام 1973 عندما كتب في دورية تصدر عن كونغرس اليهود الأميركيين، رافضاً خطة السيناتور جورج ماكغفرن لخفض الميزانية العسكرية، لأن ذلك يعني «تحريك سكين في قلب إسرائيل... إذ من المهم الحفاظ على تلك الميزانية العسكرية الكبيرة، حتى نتمكن من الدفاع عن إسرائيل».
كذلك كان كريستول السبّاق في تحذير جورج بوش الأب من الضغط على إسرائيل بعد حديثه عن ضرورة إيجاد حدّ للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، فتوجّه إليها قائلاً: «إذا أراد الله أن يدمر شخصاً جعله يحاول إيجاد تسوية للصراع».