ربى أبو عمو«الفودكا» تتصدّر عناوين الصحف الروسية. يرافقها الرئيس ديمتري مدفيديف. لا يظهر حاملاً كأسه. ملامح وجهه تبدو متجهّمة. تنذر بخطر ما. يحذّر: أصبحت الفودكا وأخواتها «كارثة قومية تقوّض الصحة العامة وتعوّق الاقتصاد»... هذه «الكارثة» دفعت مدفيديف إلى إطلاق «بريسترويكا» خاصة به تحمل اسم «التحديث». منهجٌ يعمل على إدخاله إلى البلاد منذ انتخابه رئيساً العام الماضي. أحد تجليات هذه السياسة برز أخيراً في موضوع مثّل جدلاً في روسيا منذ عهد القياصرة حتى اليوم: إدمان الروس المشروبات الكحولية.
أمهل مدفيديف رئيس حكومته فلاديمير بوتين ثلاثة أشهر للبدء بفرض قيود صارمة تهدف إلى السيطرة على إساءة استخدام الكحول. الرئيس استشعر الخطر، وهو يمسك بين يديه إحصاءات رسمية تظهر أن 40 في المئة فقط من متخرّجي المدارس هذا العام سيصلون إلى سن التقاعد (55 عاماً للنساء و60 للرجال). وتشير أرقام أخرى إلى أن 38 في المئة من الروس، الذين تراوح أعمارهم بين 20 و 39 عاماً، يعانون من الإدمان، لتقفز النسبة إلى 44 في المئة لدى الفئة ما بين 40 و59 عاماً. ويقتل التسمّم الناتج من الكحول نحو 30000 شخص سنوياً، أي ضعف عدد السوفيات الذين توفّوا خلال 10 أعوام من الحرب في أفغانستان!
تقوم الحملة على فرض قيود جديدة على الدعاية للمشروبات الكحولية، والسماح للسلطات المحلية بحظر بيع الكحول في أماكن معيّنة وأوقات محدّدة، وفرض عقوبات جنائية على باعة المشروبات الروحية والجعة لمن هم دون الثامنة عشرة من عمرهم، واتخاذ إجراءات جديدة تحدّ من إنتاج الخمور وبيعها بطريقة غير مشروعة.
حملةٌ قد تكون أشبه بـ «بريسترويكا» القرن الواحد والعشرين. إلاّ أن النسخة الأصلية لـ «إعادة البناء» هذه، والمتعلّقة بحظر الإدمان على الكحول، كان بدأها الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف عام 1985. ولم تحقّق إلا الفشل!
يُظهر التاريخ أن المحاولات السابقة للسيطرة على استهلاك الكحول في الاتحاد السوفياتي وروسيا فشلت. والسبب يعود إلى غياب الدعم السياسي والإعلامي، إضافةً إلى اعتماد الحكومة المفرط على عائداته المالية. وأسهم الإنتاج غير الشرعي للكحول والفساد في تكريس الإدمان لدى الشعب.
في بداية التسعينيات، شجعت الحكومة الروسية احتساء الخمور بسبب عائداتها الكبيرة على الدولة. وكرست «الثمالة» لدى الطبقة العاملة في محاولة منها لإجهاض احتمال نشوء أي معارضة لظروف العمل والمعيشة غير العادلة. مع ذلك، حين حاولت الحكومة السيطرة على إنتاج الكحول وبيعها، واجهت استياءً واسعاً من جانب الرأي العام. ومع حظر الولايات المتحدة الإفراط في تناول الخمور، لم تحذُ الحكومة الروسية حذو نظيرتها الأميركية، لتعود وتتصرف بصورة عشوائية. فرضت حظراً جزئياً على نوع من الخمور عام 1913، استمر أربع سنوات قبل أن يفشل، بهدف تعبئة الذكور للانخراط في الحرب العالمية الأولى.
أيّد القيصر نيكولاي الثاني بشدة حظر الإفراط في تناول الخمور، وحث على تحقيق تغييرات جذرية في مكافحة السكر، ما دفعه إلى تحييد الأولويات المالية جانباً. وأقر مجلس الدوما قانوناً يفرض إغلاق محالّ بيع الخمر لمدة 3 سنوات، لتنخفض إيرادات الحكومة بمعدل 2.5 مليون روبل خلال الأشهر الستة الأولى من سريان القرار.

تقتل الكحول نحو 30000 روسي سنوياً، أي ضعف عدد السوفيات الذين توفوا خلال 10 أعوام من الحرب في أفغانستان

وبعد الثورة البلشفية عام 1917، لم يعد حظر الكحول ذا أهمية، بعدما ركز البلاشفة على توفير المساواة في الحقوق للطبقة العاملة. ويمكن القول إن البلاشفة أهملوا الوضع السياسي الداخلي بسبب الحرب العالمية الأولى. وبحلول عام 1930، احتلت العائدات المالية مجدداً أولويات السياسة الروسية. يصل التاريخ إلى الفترة الممتدة بين عامي 1958 و1972، حيث كانت هناك برامج قصيرة هدفت إلى الحد من الإدمان. هذه الحملات عمدت إلى سجن الأفراد الذين يظهرون في حالة سكر في الطرقات العامة. وفي عام 1972 وحده، اعتقل أكثر من 7 ملايين شخص بتهمة السكر. إلا أن هذه الإجراءات لم تؤدّ إلى انخفاض في الاستهلاك أو المشاكل ذات الصلة.
أتى غورباتشوف إلى الحكم. وكانت حملته التي أعدت أول تغيير كبير في مكافحة الحكومة للاستهلاك المفرط للكحول منذ أكثر من نصف القرن. عمد إلى ضبط ساعات بيع المشروبات الكحولية، وإغلاق بعض مصانع الخمور، وتدمير عدد من الكروم في جمهوريات الاتحاد السوفياتي. أيضاً كان الفشل.
انهار الاتحاد السوفياتي. مرت سنوات وتسلّم بوتين سدة الرئاسة في أواخر عام 1999. حاول السيطرة على حالات التسمّم الكبيرة الناتجة من استهلاك الكحول، من دون أن يحالفه النجاح.
للجوّ البارد في روسيا حصة في إدمان الناس الكحول. الفقر في الضواحي باستثناء موسكو وبطرسبورغ. فشل غورباتشوف تحت اسم «البريسترويكا». هدم مشروعه إعادة البناء. فهل ينجح مدفيديف تحت شعار «التحديث» الذي يحمل كثيراً من البنود المشتركة مع سلفه؟
في صحة الرئيس...