باريس ــ بسّام الطيارةبعد تحقيق دام ٥ سنوات، فرضت المفوضية الأوروبية على الحكومة الفرنسية «استرداد مساعدات بقيمة ٥٠٠ مليون يورو» سبق أن قدمتها إلى مزارعي الخُضر والفاكهة الفرنسيين، بحجة أن هذه المساعدات «عقبة أمام المنافسة الشرعية». والجدل يدور حالياً في فرنسا حول كيفية استرداد هذه الأموال. جوزيه بوفيه الناشط الأممي، الذي بات نائباً أوروبياً، يضع اللوم على الحكومات المتعاقبة، ويدعوها إلى التكفل بـ«الدفع»، بينما وزير الزراعة، برونو لومير، يطالب المزارعين بردّ الأموال.
في المقابل، لا أحد ينظر إلى النتائج الكارثية التي قادت إليها سياسة الدعم الأوروبية لمزارعيها، وتأثيرها في زراعة الدول الفقيرة، حيث تضمحل المساحات المزروعة بسبب المنافسة غير المتكافئة مع الدول الغنية، ما يزيد من أزمة الغذاء، ويسهم في تجويع الدول الفقيرة.
وإمعاناً في هذه السياسات، أعلنت كلّ من فرنسا والمفوضية الأوروبية قبل أيام، أن الاتحاد الأوروبي لن يقدم تنازلات جديدة للتوصل إلى اتفاق في جولة الدوحة المتعثرة من محادثات منظمة التجارة العالمية بسبب تمسك الدول الغنية بمساعداتها لمزارعيها، بينما تتمسك الدول الفقيرة بحماية «ما بقي من مساحات مزروعة» أمام تقلبات أسعار الغذاء، التي أوصلت إلى أزمة غذائية عالمية.
وواقع أزمة الغذاء لا يعود «فقط إلى تغيير نمط التغذية في الهند والصين» كما يقول مؤيدو الإنتاج المكثف، ولا هو بسبب تحول قسم كبير من المساحات المزروعة إلى إنتاج «طاقة خضراء» وتصنيع الوقود الحيوي، ما قاد إلى حدوث نقص كبير في عرض الأغذية مع تزايد الطلب عليها، وارتفاع الأسعار بطريقة جنونية، بل هو في الواقع بسبب سياسات حماية المزارعين في الدول الغنية، التي أسهمت في تقليص الإنتاج الزراعي في الدول النامية والفقيرة.
فمنذ عام ١٩٥٧ تدعم حكومات دول الاتحاد الأوروبي إنتاجها الزراعي عن طريق دفع مساعدات وتعويضات مباشرة إلى المزارعين تبلغ مليارات اليورو سنوياً. وانعكست نتائج هذه المساعدات مباشرةً على النمط الغذائي في العالم. فمن جهة كانت المنتجات الزراعية الأوروبية تستفيد من آخر تقنيات نظم الإنتاج والمعالجة مع إمكان البيع بأسعار أقل من أسعار التكلفة، ما أقفل الباب أمام أي دولة فقيرة إمكان تصدير منتجاتها إلى السوق الأوروبية الغنية. ومن جهة أخرى، أدى إلى خلق فوائض زراعية أوروبية ضخمة يُصدّر قسم كبير منها إلى البلدان النامية بأسعار أقل من تكاليف إنتاجها الفعلية، ما قاد إلى منافسة الإنتاج الزراعي في هذه البلدان قبل أن يقلصه ويقضي عليه في بعض الأحيان، ما دفع هذه الدول إلى الاعتماد على الاستيراد من أوروبا والولايات المتحدة لمواد غذائية «استراتيجية» مثل الحليب والقمح واللحوم.
وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي للسياسة الزراعية للاتحاد الأوروبي قائم على توفير مصدر أمين للغذاء للدول الأعضاء، والسعي إلى درجة من الاكتفاء الذاتي، وتمكين المواطن من الوصول إلى الغذاء الجيد الصحي الرخيص. كما كان من المفترض أن تستفيد المناطق الريفية من تحسن الإنتاجية الزراعية بطريقة توفّر للمزارعين حصة في ثروة الاتحاد ونموه، فإنّ النتيجة كانت تراجع حصص المزارعين الصغار لمصلحة تجمعات زراعية كبرى التهمت بشجع فاحش المزارع الصغيرة وابتلعت معظم المساعدات التي ازدادت مع مرور السنوات لتمثّل ٤٠ في المئة من ميزانية الاتحاد الأوروبي، وباتت تمسك بتفاصيل أسعار الجملة والمفرق في الداخل، ما ينعكس زيادة في الأسعار فضلاً عن سيطرتها على أسعار المنتجات المصدّرة نحو الدول الفقيرة، وكل ذلك بحجة «تشجيع المنافسة الحرة».