علاقات استراتيجيّة لم تنقطع عرفت حروباً وتحالفات وعنوانها الدائم «الطاقة»أرنست خوري
قد تكون شخصية رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، اللذين التقيا في أنقرة أمس، نموذجية للحديث عن العلاقة الثنائية بين بلديهما. فبوتين وأردوغان، بإجماع معظم المحللين والمراقبين، أبرز شخصيتين حكمتا روسيا وتركيا منذ فترة طويلة. صحيح أن هاتين الدولتين تتمتّعان بالكثير من الصفات المؤسساتية التي تسمح بتسميتهما دولتين، لا جمهوريتي موز مثلاً، وهذا يعني أن سياساتهما الخارجية، كما الداخلية، تبقى محكومة بنظم عامة ولا تتأثّر جذرياً باسم رئيس الحكومة، إلا أنّ الرجلين تمكّنا من طبع العلاقة بين عاصمتيهما بطابع شخصيتهيما.
لا يمكن الاسترسال بالحديث عن العلاقات الروسية ـــــ التركية التاريخية، إذ إنّها تعود إلى القرن السادس عشر. كانت ولا تزال تندرج تحت شعار التنافس على السيطرة على المنطقة. وقد عرفت كل أنواع العلاقات: حروب وسلام وتحالف، فحروب ثمّ هدن وتوتر وتصعيد و«صداقات موسمية». إلا أنّهما لم تقطعا علاقاتهما حتى خلال الحرب البادرة التي تحولا فيها إلى أعداء حقيقيين. عدواة لم تحل دون مساعدة روسيا لتركيا على بناء صناعاتها المعدنية في محافظة إسكندرون خصوصاً. كان ذلك في عزّ الصراع بينهما في عام 1960، حين كاد نشر الصواريخ الأميركية في تركيا، وإرسال الغواصات السوفياتية النووية إلى كوبا، ردّاً على الخطوة الأولى، يسبّب اندلاع الحرب الكونية الثالثة. وهنا يحلو للبعض إعطاء مثال العلاقات الروسية ـــــ التركية، للدلالة على كيف يمكن أن تكون العلاقات السياسية بين دولتين أكثر من سيئة، من دون أن ينعكس هذا السوء على تعاونهما الاقتصادي المصلحي.

موقف تركيا من حرب القوقاز عدّته موسكو لمصلحة جورجيا واحتوته أنقرة بـ«منتدى القوقاز»
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تغيرت طبيعة العلاقات الروسية ـــــ التركية جذرياً، وباتت تشمل كل المجالات، وإذ بمستوى التبادل التجاري بينهما يبلغ حدّ 40 مليار دولار سنوياً، لتصبح روسيا الشريك الاقتصادي الأول بالنسبة إلى تركيا. مصالح مشتركة دفعت بالبلدين إلى الاتفاق في عام 2004 على رفع علاقاتهما الثنائية إلى مستوى «الشراكة القوية المتعددة الأبعاد»، وذلك خلال زيارة الرئيس (في حينها) فلاديمير بوتين إلى أنقرة.
ويمكن عنونة المرحلة الجديدة من العلاقات الروسية ـــــ التركية ما بعد آب 2008، بأنها «مرحلة التعاون حول الطاقة». ويكمن أساس التعاون النفطي في أن أنقرة تدرك أنها لن تتمكن يوماً من معاداة موسكو ولا الاستغناء عن نفطها بمجرد إيجاد شركاء أوروبيين وهامشيين سوفيات سابقين، وتعلم موسكو كذلك أنه ليس من مصلحتها البتّة تجاهل موقع تركيا ممراً إلزامياً ممتازاً لأنابيب نفطها إلى كامل القارة الأوروبية العجوز. وحالياً، تعتمد تركيا على نفط روسيا بنسبة 29 في المئة، وبين 63 و70 في المئة على الغاز الطبيعي الروسي.
ويعلم الحكام الروس جيداً أن أنقرة تخطط جدياً، منذ فترة طويلة، بخفض اعتمادها على هذه المواد الروسية الاستراتيجية، وخصوصاً في ظل الأحلام الروسية بالعودة إلى ريادة النظام العالمي الجديد في ظل عودة وتيرة ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته. غير أنّ حلماً تركياً آخر يطمئن روسيا، وهي المرشحة الأكبر لبناء المفاعلات التركية النووية السلمية.
ولهذه الأسباب وغيرها، وقّع بوتين وأردوغان، أمس، اتفاقين مستقلين (من ضمن 20 اتفاقاً) على التعاون النووي بين بلديهما، في ظل استمرار تفاوض الطرفين بشأن السماح بمرور بعض النفط الروسي عبر أنابيب «نابوكو» المقرّر أن تمر عبر الأراضي التركية لتصل إلى القارة العجوز.
وإلى جانب الاقتصاد، تجثم الملفات السياسية العالقة بثقلها على علاقات البلدين. وقد أجمعت الصحف التركية على أنّ مستقبلي بوتين سيصرّون عليه ليؤدي دوراً إيجابياً في حلحلة أزمات القوقاز العالقة، وتحديداً الخلاف التركي ـــــ الأرميني، والأرميني ــ الأذري، وخصوصاً أنّ روسيا ضالعة على نحو رئيسي في الملفين اللذين يُعدّان بمثابة «شؤون داخلية تركية».
انطلاقاً من هذا المبدأ، سيكون من شأن تأدية بوتين دوراً إيجابياً في إقناع أذربيجان وأرمينيا بتطبيع علاقاتهما وحل معضلة إقليم ناغورنو كراباخ، تسهيل إعادة فتح الحدود التركية ـــــ الأرمينية وتليين شروط الاتحاد الأوروبي إزاء استقبال تركيا في ناديهم.
ولأنّ زيارة بوتين أُريد لها أن تكون عشية الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية ـــــ الجورجية، فلا بدّ من التذكير بأنّ شهر آب من العام الماضي كان تاريخاً مفصلياً في العلاقات الثنائية بين البلدين، بما أن أنقرة اتخذت في حينها موقفاً عدّته موسكو موالياً لجورجيا. أزمة تمكنت أنقرة ببراعة من تحويلها إلى مناسبة لاقتراح إنشاء «منتدى القوقاز» للتعاون وحل النزاعات. وحتى في تلك الحقبة الحسّاسة، استمر العمل جارياً بين الدولتين في جميع المشاريع المشتركة، من قضايا الطاقة إلى صناعة النسيج وتجارته.