أن تتحدث في فرنسا عن مقاطعات ما وراء البحار في إطار السياحة والثروة الطبيعية شيء يدعو إلى الفخر، أما أن تتحدث عن مواجهات بين الشرطة والسكان المحليين، فهذا يبقى نقطة سوداء تذكّر بالماضي الاستعماري
باريس ــ بسّام الطيارة
بعد أشهر من اندلاع اضطرابات عنيفة في المقاطعات الفرنسية في البحر الكاريبي حملت مطالب اجتماعية واحتجاجات على تراجع القدرة الشرائية في «الجزر» (مارتينيك وغوادلوب أكبرها)، انفجر قبل أسبوع الوضع في كاليدونيا الجديدة الفرنسية، وهو أرخبيل يقع في أوقيانيا، له وضعية «إقليم».
ووقعت اشتباكات بين شرطة مكافحة الشغب بدأت في المحافظة الشمالية كوني، قبل أن تنتقل إلى العاصمة نوميا أثناء انعقاد القمة الثالثة بين أوقيانيا وفرنسا، التي مثلها وزير الخارجية برنار كوشنير. وبعكس ما حصل في جزر الكاريبي، فإن المواجهات بدأت بين مضربين من نقابة استقلالية وقوى الأمن، لتعود وتتوسع لتطال المطالب الاجتماعية.
وتتمتع كاليدونيا الجديدة، التي استعمرتها فرنسا منذ عام ١٨٥٣ وجعلت منها مستعمرة جزائية لنفي المساجين، بحكم ذاتي واسع حصلت عليه في نهاية الثمانينيات بعد مواجهات دامية بين الاستقلاليين وقوى الأمن. وتنص الاتفاقية على أن الأرخبيل سيستفتي الاستقلال أو الإبقاء على الحكم الذاتي بين عامي ٢٠١٤ و ٢٠١٨.
وبالطبع، لا يغيب عن المراقبين توقيت اندلاع المواجهات في ظل القمة الإقليمية، التي هي في الواقع لقاء بين الثلاث الكبار، أي أوستراليا ونيوزيلندا وفرنسا. إذ إن كلاً من نيوزيلندا وأوستراليا صاحبتي النزعة الأنكلوساكسونية، ترىان أن فرنسا التي تسيطر على مجموعة واسعة من الجزر المنتشرة، وأكبرها إلى جانب كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا وعاصمتها بابيت، «دخيلة على المنطقة» وتعامل الدويلات الأخرى معاملة «الأخ الأكبر» إلا أنهما تعرفان أنهما لا تستطيعان دفع باريس للانسحاب من المنطقة، وخصوصاً أن عدداً كبيراً من سكان الجزر الفرنسية وغيرها المنتشرة على مساحات واسعة هم من أصول فرنسية.
في كلدونيا الجديدة مثلاً، يصل عدد الميلاسيين، وهم السكان الأصليون، إلى ٤٢,٥ بالمئة إلى جانب أقل من ٤ بالمئة للبولينيزيين القادمين من جزر قريبة، بينما عدد الأوروبيين يجاور ٣٧ بالمئة وتوجد نسبة عالية من أصول جزائرية (٩ بالمئة)، وهم منحدرون من المنفيين في عهد مقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتستعمل اللغة العربية والأمازيغية إلى جانب ٣٣ لهجة محلية تجمع بينها اللغة الفرنسية، وقد بدأت اللغة الإنكليزية تأخذ حيّزاً وافراً في التواصل لقرب أوستراليا ونيوزيلندا، وخصوصاً للتسهيلات التي توفرها الدولتان للطلبة القادمين من الأرخبيل، الذي تعدّه أوستراليا «حديقتها الخلفية الكبرى».
وعين باريس ساهرة على تطور الوضع، وخصوصاً أن «أقاليمها» تحوي ثروات هائلة، ٨٠ في المئة منها لم تُستثمر بعد. فكاليدونيا الجديدة تملك ٢٥ بالمئة من احتياط العالم لمعدن النيكل، بينما يعوّل العديد على ثروات الجرف القاري الذي يتوقع أن يحوي نفطاً ومعادن غنية. كذلك إن الارتباط «العضوي الاقتصادي» بين فرنسا وأقاليمها قائم على «تبعية اقتصادية كاملة»، إذ تستورد هذه الأقاليم ٢٠ في المئة من استهلاكها الغذائي من فرنسا التي توفر بشكل مساعدات مالية مباشرة ربع الناتج المحلي، ما يمنع أي إمكان لتنويع مصادر السلع الأولية. والمصدر الثاني للثروة هو موارد السياحة المرتبطة مباشرة بشركات فرنسية.
إلا أن القمة الثالثة تطرقت بكثافة إلى تأثير التغيير المناخي على «الواقع الجغرافي» للأرخبيل، إذ إن ذوبان القطبين بسبب ارتفاع الحرارة يمثّل تهديداً مباشراً لعدد من الدول التي «يمكنها أن تختفي تحت المياه» مثل «الدولة الجزيرة توفالو»، التي يبلغ عدد سكانها ١٠ آلاف نسمة يعيشون في ٢٦ كيلومتراً مربعاً، فإن ارتفاعها عن سطح المياه لا يتجاوز ٤,٥ أمتار، ما يهددها بالاندثار، بينما بدأت فانوياتو (عاصمتها بور فيلا) وكيريباتي (عاصمتها بايركي) بنقل سكان المناطق الساحلية إلى أراضي الداخل. ويدرك المراقبون، ومعهم السكان المحليون، أن الحلول موجودة بين باريس وملبورن، وأن التعاون بينهما ضروري للوصول إلى حل في المستقبل غير البعيد، إذ تملك فرنسا عوامل قوة مثل المهاجرين الفرنسيين وعدد كبير من الجزر غير المأهولة التي تعدّ أراضي فرنسية إلى جانب المساعدات المالية وعضوية مجلس الأمن، فيما تملك أوستراليا عامل القرب الجغرافي وجاذبية اقتصادها النامي المتنوع عرقياً.