دعوات إلى اعتماد «مبدأ كالفو» للحفاظ على موجودات الحكومات باريس ــ بسّام الطيارة
في الوقت الذي يتناول فيه الإعلام إمكان الخروج من الأزمة المالية وحالة الركود وسط مؤشرات أميركية إلى أن «الأسوأ بات وراءنا»، تتخبّط الدول الفقيرة، في خضم نتائج ما بعد الأزمة، بالديون التي تراكمت على كاهلها، والتي يمكن أن «تلتهم» ثرواتها لأجيال عديدة قادمة، وتعوق نموها، وخصوصاً أن مسألة المطالبة بتسديد الديون باتت تمثّل إحدى عقبات «الخروج من الأزمة بالنسبة إلى الدول الفقيرة».
ومن المصادفات أن آخر تقرير صادر عن الوكالة الفرنسية للنمو يعطي مثالاً عن لبنان لإبراز التأثير السلبي للدين العام في النمو، ويظهر أنه «كرّس ٥٢ في المئة من مدخوله عام ٢٠٠٥ لتسديد دينه، فيما لم يكرس سوى ٢٣ في المئة للتربية والتعليم»
وبالتالي فإن الخطر، الذي يتربّص بدول فقيرة عاشت على الدين وأنفقت زيادة عن مداخيلها قبل الأزمة، بات يعرف بـ«صناديق الكواسر»، وهي صناديق الاستثمار التي تشتري أو اشترت ديون الدول الفقيرة إبان الأزمة أو في مرحلة تصفية شوائبها لدى المصارف والشركات الكبرى، وذلك بأسعار زهيدة، وتعود اليوم لتضع يدها على ثروات البلدان التي وقعت في مخالبها مستعملة «كل وسائل الإكراه القضائية»، التي تضعها في متناول يدها الدول المتقدمة، عبر أساليب تذكر بطريقة لا غبار عليها بأساليب الحقبة الاستعمارية البائدة.

جشع صناديق الاستثمار: نيكاراغوا دفعت مبلغ ١،٤ مليار دولار لسد دين أصلي بقيمة ٨٧ مليون دولار

وفي سياقٍ مرتبط، بدأت جمعيات حقوقية بالتنديد بأساليب عمل بعض صناديق الاستثمار «المتخصّصة» بنهب ثروات الدول الفقيرة العاجزة عن تأمين حماية قانونية لنفسها من جهة، وتواطؤ بعض مسؤوليها من جهة أخرى ما يسهّل عملها «القانوني». والطريقة المتّبعة في معظم الأحيان هي شراء ديون هذه الدول في الأسواق الثانوية بأسعار زهيدة، ثم وضع «آلية تحصيل قانونية بواسطة المحاكم» تطالب بالمبالغ الأصلية، تضاف إليها الفوائد ومصاريف المقاضاة وأتعاب المحامين.
وتنظر اليوم محاكم أوروبية وأميركية في أكثر من ٦٠ دعوة قضائية تتعلق بديون نحو ١٤ دولة، سوف «تجبر على الدفع»، رغم محاولات بعض المؤسسات المالية الدولية مساعدتها عبر تأمين «مساعدة قضائية لها». ومن هذه المؤسسات بنك التنمية الأفريقي، الذي وضع في تصرف الدول الأفريقية المكتب الاستشاري «أ إل إس إف»، أي آلية المساعدة القانونية لأفريقيا. وسيحاول المكتب وضع آلية مجابهة قانونية للتفاوض على «القيمة الواجب دفعها» لرد الحجوزات التي يمكن أن تنفّذها الصناديق على «مردود الثروات الوطنية» للدولة المعنية.
وإذا فشلت المفاوضات، فسيعمد المكتب إلى تأمين محامين غربيين للدفاع عنها أمام المحاكم الغربية. وترى بعض الوكالات الحكومية مثل «السي إن سي دي» الفرنسية، وهي وكالة تابعة لوزارة الخارجية ومتخصصة في سبل التعاون بين البلديات والجمعيات والدول الفقيرة خارج الإطار الحكومي، أنه يجب توسيع عمل «أ إل إس إف» كي يشمل دول أميركا اللاتينية أيضاً، حيث يجري «جني ثروات طائلة» عبر استعمال مفرط لقانون حماية الاستثمارات الغربية، وخصوصاً الأميركية، وهو القانون الذي يعدّ «ممراً لا مفر منه» للحصول على مساعدات من الدول الغنية. وتعطي الوكالة في تقرير لها بعض الأمثلة على جشع صناديق الاستثمار، كدفع نيكاراغوا مبلغ ١،٤ مليار دولار لسد دين أصلي بقيمة ٨٧ مليون دولار، أي بزيادة قدرها ٧٥٠٠ في المئة بحكم صادر عن الأمم المتحدة. كما أصدرت محكمة في أفريقيا الجنوبية حكماً لصندوق «إف جي» الموجود في جنة ضرائبية في دلاواري في الولايات المتحدة تسمح له بـ«مصادرة مداخيل شركة الكونغو للكهرباء لمدة ١٥ سنة» بسبب دين قديم لا تتجاوز قيمته ١٨ مليون دولار، ويعود إلى عهد موبوتو سيسي سيكو. ويقول تقرير إحدى الوكالات إن سبب ربح الدعاوى هو أن القضاة والهيئات التحكيمية تعتمد على القانون الأنكلوساكسوني المحابي للدائن على حساب المديون، والذي يجعل من سداد الدين «قدساً من قدسيات التعامل بين الدول»، إضافةً إلى كون العقود في غالب الأحيان تنص على «فقرات تحكيمية» تقيّد القضاة في حال وصول القضية إلى هيئة التحكيم، وتدخل حكومات هذ الدول في أتون شبكات الدين العام.
وفي غياب محكمة دولية لديون الدول الفقيرة، وهو مطلب أساسي لدى الجمعيات الناشطة في مجال تطبيق القانون الدولي، تطالب هذه الجمعيات بتطبيق القانون الوطني استناداً إلى «مبدأ كالفو الأرجنتيني» الذي يعود إلى عام ١٨٦٣، والذي يضع كل موجودات الدولة تحت «سلطتها السيادية»، ما يسمح لها بمعالجة النزاعات ضمن إطار قوانينها الوطنية. ويقول أحد الخبراء إن عدداً من الدول توقّع عقوداً تعرف مسبّقاً أنها لن تستطيع الوفاء بها، فترميها عبئاً على الأجيال المقبلة، كما يلاحظ أن أكثر العقود المثيرة للتساؤل هي «عقود وقعت في عهود ديكتاتورية» أو في ظروف غير قانونية.