على وقع أزماتها المتشابكة، تعيش تركيا حالة من الغليان، غير مسبوقة على مدى السنوات الماضية. فبحسب آخر استطلاعات الرأي، لن تختلف كثيراً نتيجة الانتخابات النيابية المقبلة عن تلك التي سبقتها، ما يشير إلى استمرار الاستعصاء السياسي في البلاد، في ظل تصعيد السلطة لحربها على حزب العمال الكردستاني، وقمعها لقوى المعارضة كافة، تحت شعار «محاربة الإرهاب ومن يدعمه».
ويجري التدهور السياسي ــ الأمني هذا على خلفية أزمة اقتصادية حادة، حيث تتصاعد البطالة ومعدلات الدين الشخصي إلى مستويات خطيرة، ما يفاقم حالة الغليان الاجتماعي. ويسأل البعض عن موقف الجيش التركي من كل ذلك، مشيراً إلى تململ في صفوفه يتصاعد مع تزايد خسائره، وإلى قلقٍ جدي لدى كبار الضباط على وحدة البلاد.
قبل أسبوع من الانتخابات التشريعية، يضاعف حزب العدالة والتنمية، الذي حكم البلاد بلا منازع منذ 13 عاماً، الجهود لاستعادة الأكثرية المطلقة التي خسرها في انتخابات حزيران الماضي، حين أحرز 40.6% من الأصوات، أي بخسارة نحو عشر نقاط، مقارنة بالنتيجة التي أحرزها في انتخابات عام 2011. واعتُبرت هذه النتيجة خسارة كبيرة للرئيس التركي والزعيم الفعلي للحزب الحاكم، رجب طيب أردوغان، الذي كان يطمح إلى أن يحقق حزبه فوزاً كاسحاً، يمكنه من تعديل الدستور وجعل نظام الحكم رئاسياً. لكن حزب الشعوب الديموقراطي، الذي نجح في توسيع قاعدته إلى أبعد من الدائرة الكردية التقليدية، بالتحول إلى تشكيل يساري مدافع عن الحقوق الاجتماعية وحقوق الأقليات، حصد 80 مقعداً نيابياً، فأسهم بشكل أساسي ليس فقط في إحباط هدف «العدالة والتنمية» تعزيز نفوذه وتعديل دستور البلاد، بل في حرمانه الغالبية النيابية المطلقة التي تمكنه من الاستمرار بالحكم منفرداً.

جنون السلطة

بعد فشل رهانه الانتخابي، عمد الحزب الحاكم إلى تصعيد حربه على «الكردستاني»، الذي تصنفه السلطة «إرهابياً»، متهماً «الشعوب الديموقراطي» بأنه امتداد للأخير، بل وإلصاق تهمة «الإرهاب» أو «دعم الإرهاب» بالأحزاب اليسارية أيضاً، على أمل إضعاف المعارضة، واستعادة زمام الحكم بالكامل، تحت شعار الـ«حرب على الإرهاب».

سيكون لـ «العدالة
والتنمية» مجدداً أقل
من نصف البرلمان
وتخلى «العدالة والتنمية» عن الترويج للنظام الرئاسي، وراح مسؤولوه يصورون حكمهم كضرورة لأمن البلاد ولوحدتها، وكأنهم يقولون، «إما نحن أو الفوضى». وقال داود أوغلو، «إذا فقد حزب العدالة والتنمية السلطة، فستجوب عصابات الإجرام البلاد». وعلى المنوال نفسه، قال أردوغان، «لن نترك هذا البلد يحترق بالنار المشتعلة في المنطقة (والذي يتحمل حزبه مسؤولية كبيرة عن إشعالها)؛ لن نسمح بأن يصبح بلداً يتعزز فيه موقع الخونة»، لاصقاً الصفة الأخيرة بقوى المعارضة كافة!
ووصل جنون السلطة إلى حد اتهام المعارضة بالمسؤولية عن الهجمات التي استهدفت تجمعاتها هي. فبعد 3 أشهر على هجوم انتحاري استهدف تجمعاً كردياً ــ يسارياً معارضاً في مدينة سوروتش، شهدت تركيا في العاشر من الشهر الجاري تفجيراً مزدوجاً في وسط أنقرة، أدى إلى مقتل أكثر من 100 متظاهر من المناهضين للحرب التي تشنها السلطة على الأكراد. وفي المقابل، حمّل حزب الشعوب الديموقراطي أردوغان وحكومته المسؤولية عن تجدد الحرب، وتأجيج التوتر لتحقيق أهدافه الخاصة، فضلاً عن دعمه التكفيريين «الجهاديين». ووصف الحزب السلطة بـ«السفاحة»، ورفع المتظاهرون لافتات نعتت أردوغان بالـ«قاتل».
ولم تنفرد القوى الكردية واليسارية بتحميل الحكومة المسؤولية عن تدهور الأوضاع في البلاد، فحتى زعيم القوميين الأتراك، دولت بهجلي، والذي كان داود أوغلو قد حاول إقناعه بأن يكون شريكاً في حكومة ائتلافية، اعتبر أن «حزب العدالة والتنمية هو المسؤول الرئيسي عن عدم الاستقرار الحالي». ومع فشل كل الجهود لاستمالة الناخبين القوميين، يتضح أيضاً فشل «العدالة والتنمية»، عبر التحريض والتخويف، بتعديل مزاج الناخبين لصالحه. فقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أنه سيحصل على ما بين 40 و43% من الأصوات في الانتخابات المقبلة، ما يعني أنه سيفوز بأقل من نصف مقاعد البرلمان. ووفق هذا السيناريو، سيكون حزب أردوغان مجبراً مرة أخرى على تقاسم السلطة، أو إجراء انتخابات جديدة مرة أخرى.

هل يلزم الجيش موقف المتفرج؟

لو لم يعمل «العدالة والتنمية» على تقليم أظافر الجيش، منذ وصوله إلى السلطة قبل 13 عشر عاماً، كان الأخير «ليبدي قلقه العميق حول الطريقة التي تدار بها البلاد؛ وإذا ما تجاهلت السلطة المدنية تحذيره، كان الجيش ليقوم بانقلاب عسكري»، يقول جيرالد روبينز، من "مؤسسة السياسة الخارجية للأبحاث" Foreign Policy Research Institute، في مقال نُشر منتصف الشهر الجاري، بعنوان، «هل يعود الجيش التركي إلى ميدان السياسة»؟
يرى روبينز أن ثمة عوامل قد تفرض على الجيش العودة إلى السياسة، مشيراً إلى أن كبار الضباط باتوا مشغولين الآن بموضوع وحدة البلاد، على خلفية القتال مع الأكراد، و«الحضور المتزايد لشبكات الجهاديين الراديكاليين داخل تركيا»، والتي تتغذى من سوريا والعراق، عبر الحدود المنفلتة. ويشير روبينز أيضاً إلى «التململ المتزايد» في أوساط الجيش، والذي ظهر عند تشييع العديد من الجنود والضباط الذين قُتلوا في المعارك مع «الكردستاني». «باتت المآتم مناسبات للتعبير عن عدم الرضى عن الأوضاع القائمة»، حيث يتهم ذوو القتلى أردوغان «بالتعمد بتسبب القتال، لأهدافه السياسية الخاصة»، وفق روبينز. ويلفت الباحث إلى حدث بارز، حيث نقلت كاميرات التلفزة مشهد ضابط تركي برتبة مقدم، بلباسه العسكري، يتهم أردوغان شخصياً بالتسبب بمقتل شقيقه الأصغر، لتعمد السلطات بعدها إلى تقييد التغطية الإعلامية لجنازات العسكريين. «الجيش يدرك ما هو على المحك، وهو امتنع، حتى الآن، عن تجاوز الحدود التي أُرسيت خلال عهد حزب العدالة والتنمية. لكن ذلك قد يتغير»، يقول روبينز، «ربطاً بنتائج انتخابات الأول من تشرين الثاني» المقبل.
(الأخبار)