باريس ــ بسّام الطيارةعكَسَ الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أمام مؤتمر سفراء فرنسا السابع عشر، أول من أمس، هواجس فرنسا التاريخية. تلك الهواجس التي حملها كل رؤساء الجمهورية الخامسة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تتلخص بـ«الخوف من تراجع موقع فرنسا بين الأمم»، لا بسبب تراجع قوتها فحسب، بل بسبب منافسة قوى جديدة صاعدة على الساحة الدولية.
ولدى المسؤولين الفرنسيّين، كما هو لدى مواطنيهم، اقتناع بأن دور فرنسا في العالم يتجاوز بكثير قدراتها العسكرية والاقتصادية. هي كما سبق أن قال شارل ديغول، ولم يكذّبه أيّ من الرؤساء الذين جاؤوا بعده، «تملك القوة الأدبية». غير أنه في عهد الرئيس الأسبق جيسكار ديستان، كانت فرنسا تملك أيضاً «قوة الأفكار الجديدة».
واستشفّ المراقبون من نبرة خطاب ساركوزي أن باريس تشعر بأن العالم يقف على مفترق طرق في مواجهة عدد من الأزمات والعقد، التي يمكن أن تقود حلحلتها إلى تراجع نفوذ فرنسا.
يضاف إلى ذلك «دافع الأنا الساركوزية»، التي تجد تناسقاً تاماً مع هذه العوامل، والتي تمحورت حول استعمال مفرط لكلمة أنا، بحيث ظهرت ٣٦ مرة في الخطاب.

المقاربة الفرنسية في الملف الإيراني تبدو تلبية لمطالب زعماء إسرائيل
رغم هذا، يمكن وصف الخطاب، قبل الدخول في تفاصيله، بأنه «الأفضل فرنسياً» منذ وصول ساركوزي إلى الإليزيه، حسبما ذكر سفير أوروبي لـ«الأخبار». فقد تناول ساركوزي شؤون العالم من زاوية الأزمة المالية، وجعلها مدخلاً لنشر «أفكار فرنسا الجديدة». وجعل من «طروحاته» مقدمة لإسقاط هذه الأفكار في «قمة بيتسبورغ» للدول الـ٢٠ في الولايات المتحدة في أيلول المقبل. كأنه يخاطب الولايات المتحدة، حين أظهر استعداد بلاده لـ«معاونة الرئيس باراك أوباما على تحسين نظام الضمان الصحي» المتعثّر.
كذلك بدا كأنه يتوجه إلى الأميركيين بدرس عن «ضرورة رفع نسب التوفير» للخروج من الاقتصاد الاقتراضي. ولوّح ساركوزي بـ«العملة الدولية» التي تطالب بها كلّ من روسيا والصين، وإن هو بدا كأنه لا يأخذها على محمل الجد. وذلك عكس رغبته في إطلاق حوار بين الدول المنتجة والمستهلكة للنفط، والدعوة إلى مؤتمر دولي بشأن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية في إطار دعم «منظمة البيئة الدولية»، التي طالب بأن تعمل مثلها مثل «منظمة العمل الدولية» بتنسيق تام مع صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي.
في النصف الثاني من الخطاب، الذي وصفه أحد الخبراء بأنه «لا مجال فيه للأفكار الجديدة بل لموازين القوى فقط»، استهلّه ساركوزي بمدح وزير خارجيته برنار كوشنير، قبل أن «يغوص» في الصراع العربي الإسرائيلي. ولفتت الجميع ملاحظته أن هذا «الصراع ليس إقليمياً بل دولياً»، في مقاربة تذكّر بـ«سياسة فرنسا العربية» العتيدة، التي قضى عليها ساركوزي فور وصوله إلى الإليزيه.
وبعد ترداد «صداقته لإسرائيل»، وهو ما بات شعاره عند كل حديث عن ملف الشرق الأوسط، نادى بضرورة وضع حدّ لهذا الصراع و«لإضاعة الوقت»، مشيراً إلى أن «معايير السلام والطريق الذي يقود إليه معروفة». كذلك شدد على أن الـ«تجميد الدقيق والشامل» للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية هو المفتاح للتقدم وللعودة إلى المفاوضات. وقال إنه سيشجّع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على «الإسراع في تجديد هيكلية البنى الفلسطينية»، التي ستؤول إليها «إدارة الدولة الفلسطينية»، مكرراً أن إيجاد دولة فلسطينية هي ثابتة من ثوابت السياسة الفرنسية.
في المقابل، «علا صوت» ساركوزي في ما يتعلق بالملف الإيراني. وبعدما أيّد مبادرات أوباما، عاد إلى لغة التهديد والوعيد، مازجاً بين الوضع على الساحة الداخلية والانتخابات، والملف النووي، مشيراً إلى أن النجاح في «قمع المعارضة» ترافق مع «عدم توقف البرنامج النووي».
وختم ساركوزي مقاربة ملف المنطقة بربط الملف الأفغاني بملف الإرهاب عموماً، مؤكداً «عزم فرنسا على عدم الانسحاب من أفغانستان» لمحاربة الإرهاب واحتواء تمدّده في المنطقة. ويرى البعض أن فرنسا في هذه المقاربة أقرب إلى من يعرض خدمات في الملفات التي «لا يد لها فيها ولا حيلة»، مثل الشرق الأوسط وأفغانستان وإيران، فهي تلبّي أحد مطالب أوباما في أفغانستان وتنتظر ما سيحصل في الملف الفلسطيني، وما عرض قمة لدول المتوسط سوى اعتراف بعدم القدرة على الدعوة إلى مؤتمر حول الشرق الأوسط كما سبق أن وعد ساركوزي من مصر.
أما المقاربة الفرنسية في الملف الإيراني، فتبدو كأنها محاولة للدفع نحو زيادة في التشدد، وتلبية لمطالب زعماء إسرائيل في محاولة للحصول على دور في الشرق الأوسط ضمن معادلة أطلقتها تل أبيب تقول إن كل تنازل في ملف المفاوضات ووقف الاستيطان، يجب أن يوازيه تشدد في التعامل مع إيران. هذا هو الثمن الذي يجب على القوى غير المؤثرة فعلاً على الدولة العبرية دفعه للبقاء في اللعبة، رغم رفعها شعار «صداقة إسرائيل».