توفّي أمس وزير الدفاع الأميركي الأسبق وأحد مهندسي حرب فيتنام، روبرت ماكنمارا، عن عمرٍ ناهز الـ 93 عاماً بعد سنوات أمضاها في مراجعة لأخطائه في الحرب
جمانة فرحات
شهدت حياة روبرت ماكنمارا تقلّبات سياسيّة عديدة؛ فبعدما كان من متحمّسي حرب فيتنام، ومنظّري الحروب النوويّة المحدودة، انتقل إلى منتقدي الحروب، إلى حدّ وصف نفسه بأنه «مجرم حرب». وشغل روبرت ماكنمارا، الذي ولد في سان فرانسيسكو عام ‏1916، منصب وزير الدفاع في عهد الرئيسين الأميركيين جون كنيدي وليندون جونسون، بعدما كان قد خدم في القوات الجويّة الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، ثمّ ترأس شركة «موتور فورد» عام 1946، ليصبح أول رئيس للشركة من خارج العائلة.
وفي عام ‏1961‏ عهد إليه الرئيس كنيدي بوزارة الدفاع، واستمر في منصبه حتى بداية عام 1968، عندما اختلف مع الرئيس جونسون بشأن حرب فيتنام. وأشرف خلال هذه السنوات على حرب فيتنام ومئات البعثات العسكرية، ومليارات الدولارات من النفقات العسكرية ومبيعات الأسلحة الأجنبية. وأدّى دوراً في توسيع مهمات وزارة الدفاع وإرسال قوات إلى خارج الحدود.
وقد اعتُبر ماكنمارا رائد فريق الصقور في واشنطن وتبنّى مقترح استخدام أسلحة نووية تكتيكية في ساحات القتال. ووصل الأمر بالسيناتور الديموقراطي، واين مورس، إلى تسمية حرب فيتنام «حرب ماكنمارا».
وبعد اغتيال كنيدي في 22 تشرين الثاني 1963، وجد ماكنمارا أن الرئيس جونسون يعتمد عليه لكسب الحرب. ومع مرور الأيام وازدياد حجم الضربات الأميركية في فيتنام، مقابل فشلها في تحقيق أي إنجاز على أرض الواقع، تحولت الحرب إلى كابوس شخصي يؤرقه، وبدأت معارضته لاستمرارها تتسع شيئاً فشيئاً. ولم يتوان في شباط 1966 خلال لقاء جمعه بعدد من الصحافيين القول «لا يمكن أي قدر من القصف أن يضع حداً للحرب».
وبعد أشهر قليلة، وتحديداً في 26 آب، قرأ دراسة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، خلصت إلى أنه لا يمكن أي شيء تقوم به الولايات المتحدة أن يهزم العدو، قبل أن يطلب من مساعديه البدء، بسرية، جمع تاريخ ومسار الحرب التي عرفت في ما بعد باسم «أوراق وزارة الدفاع الأميركية»، حيث ازدادت قناعاته بعدم جدوى الغارات الجوية. وجاءت نقطة التحول في 19 أيار 1967، عندما أرسل رسالة طويلة لجونسون حثّه فيها على التفاوض على السلام بدلاً من تصعيد الحرب في فيتنام. فوقع الطلاق مع جونسون الذي أعلن في 29 تشرين الثاني أن ماكنمارا سيتخلى عن منصبه في وزارة الدفاع لإدارة البنك الدولي.
وترك ماكنمارا منصبه بعد شهرين، من دون أن يدرك ما إذا «استقال أو أقيل» على حد قوله، ليتولى منصب رئيس البنك الدولي من نيسان 1968 إلى حزيران 1981. ثلاثة عشر عاماً أمضاها ماكنمارا في البنك الدولي وخصّصها لتركيز جهود البنك على الخطط التي تهدف إلى الحد من الفقر. كذلك قام بدور في إقناع الدول بزيادة الأموال الموجّهة لمنح القروض لأغراض التنمية وتحديداً في مجالات الصحة والغذاء والتعليم والمشاريع.
ترك ماكنمارا البنك الدولي عندما وصل إلى سن الـ65، بعد وقتٍ قصير من وفاة زوجته، ليبدأ مراجعة ذاتية لمسيرته السياسية. فتحدث علناً ضد سباق التسلح النووي، وذهب إلى تأكيد أن الكلام عن حرب نووية محدودة ضرب من الحماقة، وأن أي قرار يتخذ بشأن استخدام محدود للسلاح النووي من شأنه أن يفجر حرباً نووية شاملة‏.‏ وأعرب عن أسفه لدوره الرئيسي في تقديم توصيته لكنيدي للمضيّ قدماً في عملية خليج الخنازير في كوبا، ووصفه بأنه «الخطأ المسلّم به في ذلك الوقت».
وفي عام 1995، نشر كتاب «إذا أعدنا النظر: المأساة ودروس فيتنام»، وكتب يقول «نحن من الذين شاركوا في اتخاذ قرارات بشأن فيتنام، تصرفنا وفق ما اعتقدنا أنها مبادئ وتقاليد هذه الأمة. اتخذنا قراراتنا في ضوء هذه القيم، إلا أننا كنا مخطئين خطأً شنيعاً ونحن مدينون للأجيال المقبلة لنشرح الأسباب».
ويمتلك ماكنمارا مجموعة واسعة من المؤلفات، في مقدمها «جوهر الأمن: تأملات في المكتب (1968)»، و«مئة بلد، وملياران من البشر: أبعاد التنمية (1973)»، و«التخبّط في الكوارث: النجاة من القرن الأول من العصر النووي (1986)»، وأخيراً كتاب «شبح ويلسون: الحدّ من مخاطر الصراع والقتل والكوارث في القرن الواحد والعشرين»، الذي أصدره في عام 2003. كما شارك في فيلم وثائقي بعنوان «ضباب الحرب: أحد عشر درساً من عمر روبرت ماكنمارا»، خصصه للمقارنة بين الأخطاء التي واجهتها أميركا في حرب فيتنام وتلك التي تواجهها في حرب العراق. وتحدث عن المآزق الأخلاقية، فتذكّر مسؤوليته عن إحراق طوكيو بالقنابل، وتسبّبه بموت 100 ألف من المدنيين في ليلة واحدة، ليعترف بأنه والمسؤولين الآخرين كانوا يتصرفون «كمجرمي حرب».