عنف قبلي يتهدّد القبول السياسي السوداني بالتحكيم الدوليجمانة فرحات
أسدلت محكمة العدل الدولية في لاهاي الستار على الصراع القانوني بين شمال السودان وجنوبه بشأن قضية منطقة أبيي، لكنها لم تتمكّن من وضع حد للصراع السياسي بين الطرفين، الذي ما لبث أن تفجّر بعد أيام من إصدار المحكمة قرارها. فعلى الرغم من لجوء المحكمة إلى اتخاذ قرار، أجمع المراقبون على اعتباره حلاً وسطيّاً وسياسيّاً، وجاء لإرضاء جميع الأطراف السياسية؛ فالقرار أعاد ترسيم حدود المنطقة وقلّص مساحتها من 18500 كيلومتر مربع إلى 10 آلاف كيلومتر مربع (أي أقل من 1 في المئة من مساحة السودان)، وأعطى السيطرة على حقلي نفط هجليج وبامبو إلى ولاية جنوب كردفان التابعة لشمال السودان، في مقابل تقسيم حقل دفرة بين الشمال والجنوب، ومنح الأراضي الخصبة الغنية بالمياه لمنطقة أبيي، والسماح لقبيلة المسيرية بحرية التنقل على الحدود بين الشمال والجنوب.
لكن ذلك لم يمنع تبادل كل من المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان الاتهامات على خلفية توزيع عوائد النفط ومن يحق له المشاركة في الاستفتاء المقرر في كانون الثاني 2011.

الحكومة عقدت صفقة باعت بموجبها المسيرية في مقابل حقل هجليج النفطي
فمع صدور القرار، خرج وزير الطاقة، الزبير أحمد الحسن، ليعلن بدء وزارته، بالتعاون مع وزارة المال، دراسة الآثار الفنية والمالية لقسمة البترول بعد قرار محكمة لاهاي بخصوص أبيي. وسبقه في ذلك قرار اتخذته الخرطوم بالتوقف عن دفع نسبة من عائدات النفط من حقول هجليج، إلى حكومة الجنوب والقبائل وفق ما تنص عليه اتفاقية السلام الموقعة في عام 2005، وذلك بعدما أصبح الحقل تابعاً للشمال.
هذه الخطوات أثارت ردود فعل مستنكرة من جانب «الحركة الشعبية». فبينما رأى نائب رئيس الحركة، نائب رئيس حكومة الجنوب، رياك مشار، أن النزاع في المنطقة لا يزال مستمراً بين الطرفين رغم قرار المحكمة، نفى وزير شؤون رئاسة حكومة الجنوب، لوكا بيونق، حسم النزاع بين ولايتي الوحدة وجنوب كردفان على منطقة هجليج التي تضم حقل النفط، مهدداً باللجوء إلى التحكيم الدولي من جديد لحسم المسألة.
أما في ما يتعلق بقضية الاستفتاء، فقد أدّى الرئيس السوداني، عمر البشير، دوراً في إطلاق السجال في الموضوع، عبر مطالبته بأن يكون لجميع الناس في منطقة أبيي حق المشاركة في الاستفتاء على وضع المنطقة، أي ما إذا كانت ستبقى متمتعة بحكم ذاتي ضمن إدارة الشمال، أو تنضم للجنوب إذا قرر الجنوبيون الانفصال. وهو ما عدّته الحركة الشعبية إشارة إلى البدو من قبيلة المسيرية العربية، وعدّته بالتالي محاولة للتأثير في التركيبة السكانية للمنطقة للتأثير في سير الاستفتاء.
وإضافةً إلى مسألتي عوائد النفط والاستفتاء، ظهر امتعاض قبيلة المسيرية، التي تعتبر نفسها الأكثر تضرراً من الحكم. فنظم آلاف من أبناء القبيلة احتجاجات خلال اليومين الماضيين ضد الحكم. وقال أحد أبناء القبيلة، المسؤول في حزب الأمة المعارض، صادق بابو نمير، إن «الحكومة عقدت صفقة باعت بموجبها المسيرية في مقابل حقل هجليج النفطي الناضب بالفعل». وأوضح أن «المسيرية تعتزم حالياً تجاوز السلطات السودانية وإجراء مفاوضات مباشرة مع قبيلة نجوك دنكا لضمان حقوقهم في الأراضي، وفقاً لما جاء في اتفاق المبادئ بشأن أبيي».
كذلك رأى رئيس جبهة تنمية أبيي، محمد عمر الانصاري، أن القرار «أوقع مظالم كبيرة على قبيلة المسيرية لأن أراضيها انتزعت منها وأعطت للدينكا»، متهماً المحكمة بأنها وقعت في خطأ استراتيجي بعدم التزامها بالقانون والتفويض الممنوح لها لهذه القضية.
في المقابل، لم تبرز اعتراضات كبيرة من قبيلة نجوك دنكا، التي أجمع المراقبون على أنها، وللمرة الأولى في تاريخها، ستكون لديها أرض خاصة بها اسمها أبيي. هذه الأرض تتمتع ليس فقط بمراعٍ خصبة غنية بالمياه بل أيضاً بمعادن.
في خضم هذه التحفظات لا يبقى أمام شريكي الحكم، اللذين كان يدركان مسبقاً حساسية اللجوء إلى التحكيم الدولي وانعكاساته على تنفيذ اتفاق السلام بأكمله، سوى قبول القرار وتطبيقه؛ فالحكومة السودانية ليست بحاجة إلى الدخول في مواجهة مع المجتمع الدولي من جديد، وتحديداً مع الولايات المتحدة التي يشهد نهجهها في التعاطي مع الملف السوداني تحولاً جذرياً وأكثر عقلانية، منذ قدوم الرئيس الأميركي باراك أوباما. كما أن الحركة الشعبية لديها مصلحة في المحافظة على الهدوء خلال المرحلة المقبلة وإلى حين حصول الانتخابات والاستفتاء لتحدد مصيرها النهائي.
ولكن يبقى الخطر الأساس متمثلاً في القبائل، وبالأخص المسيرية، التي تبدو الأكثر امتعاضاً من قرار محكمة العدل، وبالتالي فإنها لن تدخر جهداً لاستغلال أي استفزاز من قبيلة نجوك دينكا لمحاولة إحداث أمر واقع جديد يعيد إليها «حقوقها المنتزعة».