عاد الرئيس الفرنسي ليبهر المجتمع بإبداعاته وتفسيراته العلمانية، وها هو اليوم يقحم الأديان في طاقم الدبلوماسية الفرنسية في الكي دورسيه
باريس ــ بسّام الطيارة
أصبح من المسلم به أن يفعل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ما يقول، مهما كانت النتائج، ومهما كانت ردود الفعل، وهو تحت شعار القطيعة قرر أن يترك بصماته على كل صفحات الممارسات الفرنسية، أكانت سياسية أم اجتماعية أم إدارية، حتى بات بعض منتقديه يرون في هذا «الإصرار» نوعاً من قوة الشخصية، والثبات في الرأي، وهي من صفات من يدخل التاريخ من بابه الواسع.
وكان ساركوزي قد تحدث منذ سنوات، قبل أن يقطن في الإليزيه، عن «العلمانية الإيجابية»، وفسر البعض طرحه هذا بأنه يرى أن العلمانية الفرنسية القائمة منذ ثورة ١٧٨٩ «علمانية سلبية». إلا أن آخرين رأوا في هذا الطرح رمزية عصر «صراع الحضارات،» حيث للدين والمعتقد دور مهم في تنظيم الحياة السياسية، وأخذ المواقف من القضايا الأساسية الداخلية والخارجية.
والجدير بالذكر أن ساركوزي كان أول من طرح العمل بموجب سياسات «التمييز الإيجابي» تماثلاً مع ما هو معمول به في الولايات المتحدة، بحيث طالب بوضع «كوتا» للأقليات في مناصب الدولة وفي المعاهد الكبرى وسن قوانين «تمييزية» تفتح الأبواب أمام المواطنين من أصول مهاجرة، وتسهّل عملية انخراطهم. وقد تصدت معظم القوى والأحزاب السياسية لهذا الطرح المناقض لمبادئ المساواة وقاعدة الانصهار في المجتمع الفرنسي القائمة على مبدأ «المصعد الاجتماعي عبر التعليم الرسمي المشترك».
وقد طوى في حينها ساركوزي مشاريع أفكاره وهو على أبواب الحملة الانتخابية الرئاسية، إلّا أنه كما هو معروف عنه «ينحني في وجه الممانعة ولا يتراجع». فهو استثار الفرنسيين بخطاب في حضرة البابا بنديكتوس السادس عشر ربط فيه تاريخ فرنسا بالكنيسة الكاثوليكية، وبتعميم «منافع الدين»، ثم عاد وأخرج من جعبته «العلمانية الإيجابية» في أيلول عام ٢٠٠٨ عند استقباله البابا في باريس. وها هو اليوم يقحم الأديان في طاقم الدبلوماسية الفرنسية في الكي دورسيه، وهي الإدارة التي تمثّل «فخر الفرنسيين تجاه العالم»، بتكوين «قطب أديان»، وهي إدارة مستقلة ضمن مديرية الدراسات بدأ العمل فيها في مطلع الصيف، كما أعلن وزير الخارجية برنار كوشنير الذي «وقف وراء المشروع»، والذي برّره بأنه نتيجة مباشرة «للعولمة». ووصفه بأنه يساعد على «تحديث العقلية» للأخذ بالاعتبار «كل العوامل المتعلقة بالأديان» خلال وضع استراتيجيات العمل وتخطيط السياسات في الخارج. وتحدث كوشنير عن «الحروب، التي عرفها»، وقال إن الدين كان عاملاً أساسياً فيها، مشيراً إلى لبنان وسريلانكا وكوسوفو خصوصاً. وأضاف «في بعض المناطق، فإن التعاطي في السياسة يعني التعاطي في الدين والعكس بالعكس».
وقد تسلّم إدارة القسم المستحدث جوزيف مايلا، وهو عالم اجتماع من أصول لبنانية، وكان سابقاً نائب عميد كلية الآداب في الجامعة اليسوعية في بيروت، قبل أن يحتل كرسي عمادة المعهد الكاثوليكي في باريس. وتساءل مايلا في عدد من تصريحاته للصحافيين «كيف يمكننا أن نقوم بوساطات في نزاعات حين لا يمكننا التمييز بين سني وشيعي أو بين أرثوذكسي وماروني؟» في إشارة إلى دراساته عن اتفاق الطائف، مشيراً إلى أن بعض النزاعات لا يمكن حلها إلا عبر «توافق طائفي».
وتقول مصادر في الكي دورسيه إن وظيفة القسم الجديد سوف تنصبّ على «دراسة التيارات الدينية الكبرى» في العالم وخصوصاً الإسلام وفرقه، إضافةً إلى تطور الأرثوذكسية في روسيا وانتشار الإنجيليين في العالم، وتوسع الكنيسة العلمية (سيانتولوجي). وأضافت المصادر إن القسم سوف يسعى إلى «غربلة ردات الفعل على تصريحات الرسميين الفرنسيين بشأن الملفات الدينية» والإجابة عنها، وذلك في إشارة مباشرة إلى مسألة الحجاب والبرقع، وسبل إجراء تواصل دبلوماسي مع منظمات ذات أطر دينية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي.
ويرى بعض المراقبين أن اختيار عشية العطلة الصيفية لإعلان إنشاء «قطب الأديان»، يدل على أنه لزم الأمر نوع من «الخشية من ردود فعل الفرنسيين». إذ يرى هؤلاء أن على فرنسا أن تنشر في العالم عبر دبلوماسيتها مبادئ المساواة والعلمانية كقاعدة للحداثة والنمو لا «الانغماس في دوّامة الأديان»، إلا إذا كانت نتيجة أن يفعل ساركوزي ما يقول هي دخول التاريخ على أساس أنه السياسي الذي أعاد عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة الفرنسية.