ما بين أميركا اللاتينية والرئيس باراك أوباما ساحة اختبار قد تختزن عبراً لساحات أخرى. في كل الأحوال، إنه مصدر إلهام: لأوباما عن الساحات الأخرى، ولخصوم الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية وخارجها. تغيير صورة رئيس الولايات المتحدة بعد جورج بوش ليست مهمة صعبة. تغيير السياسة الأميركية شيء آخر، وهو رهن بوقع النيات على الواقع
بول الأشقر
أميركا قارة ومناطق؛ أميركا الشمالية التي تضم الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، وأميركا الوسطى، ودول بحر الكاريب وأميركا الجنوبية. أميركا اللاتينية ـــــ التي تشمل جميع دول هذه المناطق ـــــ إلا الولايات المتحدة وكندا ـــــ معطى ثقافي يطمح أحياناً إلى أن يتحول إلى لاعب سياسي. ولئلا تحتكر الولايات المتحدة تسمية أميركي، لجأت الصحافة اللاتينو ـــــ أميركية إلى عبارة من الممكن ترجمتها إلى «ولاياتمتحدتي»، نسبة إلى مواطني الولايات المتّحدة. إنها عبارة معقدة ولا تستعمل إلا نادراً، فقط في اللغة المطبوعة، وتهدف إلى التمييز بين أميركا والولايات المتحدة.

«قطع حساب»

في كلام أوباما في بداية قمة الأميركيات عن «عهد جديد» وعن «صفحة بيضاء» وعن «حلف بين متكافئين»، رسالة ساطعة إلى أميركا اللاتينية وأخرى ضمنية تطالب بقطع حساب مع أخطاء حقبة جورج بوش. وتحديداً مع الولاية الأولى للرئيس الأميركي السابق، وخصوصاً في عام 2002، حين شجع ورعى واعترف بالانقلاب ـــــ الذي نجح لـ 48 ساعة فقط ـــــ على الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز. وفي الفترة نفسها حرّض الرئيس السابق على الرئيس البوليفي إيفو موراليس، ولقبه بـ«المخدراتي الإرهابي» وطرده من مجلس النواب.
عنتريات بوش ما بعد هجمات أيلول 2001 دعّمت هذه الزعامات ولم تضعفها، لأن التغيير الذي كان يسعى الرئيس السابق إلى إقفال الباب في وجهه كان يمدّ جذوره في نضالات أقدم منه، بدأت ضد العولمة المتوحشة التي اختارت أميركا اللاتينية ساحة لاختباراتها منذ ثمانينيات القرن الماضي. خطأ بوش في أميركا اللاتينية (وفي غيرها) أنه باع خطاباً هجومياً قوامه «من ليس معنا فهو ضدنا»، فيما كانت مصلحة الولايات المتحدة تقتضي ترتيب منظَّم لتراجع نفوذها الحاصل واقعاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
في هذه الفجوة بين الخطاب والواقع، نمت زعامات مثل تشافيز، وأخرى ربما كانت أهم منه، مثل الرئيس البرازيلي لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا، وإلى حدّ ما موراليس. أكثر من ذلك، سياسة بوش أوصلت أميركا اللاتينية إلى عتبة تأسيس منظمة إقليمية خاصة بها، أي بكلام أوضح منظمة للقارة الأميركية من دون الولايات المتحدة وكندا. وبفضل تسلّم مقاليد الحكم في جميع دول أميركا الجنوبية تقريباً من مناضلين قاوموا السياسات الأميركية منذ الستينيات إلى التسعينيات، زالت الهيمنة «الولاياتمتحدتية» عن «حديقتها الخلفية»، كما يقال عن أميركا اللاتينية، في ما يمثل إعادة صياغة جديدة لـ«عقيدة مونرو»، بعد قرن ونصف قرن من الإخضاع والتبعية.
عام 1823 صيغت «عقيدة مونرو»، التي تقول: «أميركا للأميركيين». كانت إنذاراً موجهاً إلى بقايا القوى الاستعمارية الأوروبية. ومع اكتمال الحركة الاستقلالية في أميركا اللاتينية، انتهت صلاحية العقيدة التحررية وتحول معناها إلى ما يشبه «أميركا لنا» (أي للولايات المتحدة). بين عامي 1846 و1848، خسرت المكسيك، ليس فقط ولاية تكساس، بل أيضاً كاليفورنيا العليا ونيو مكسيكو وأوتا ونيفادا وأريزونا وغرب كولورادو. مع بداية القرن العشرين، شرعنت الولايات المتحدة حقها في التدخل في شؤون أي دولة أميركية إذا مُسَّ بمصالح أيٍّ من مواطنيها أو شركاتها. في النصف الأول من القرن العشرين، استعملت عبارة «جمهوريات الموز» للإشارة إلى دول في أميركا الوسطى خاضعة لشركة «أميركان فروت كومباني». بين عامي 1898 و1994، أطاحت الولايات المتحدة 41 نظاماً في أميركا اللاتينية، منها 17 نتيجة تدخل مباشر. مع بداية «الحرب الباردة»، وبعد انتصار الثورة الكوبية، صار المرور في «مدرسة الأميركيات» ـــــ حيث تدرّس مادة كشف «الشيوعي» وتقنيات سحب المعلومات منه ـــــ الجواز الإجباري لأي ضابط في أيٍّ من هذه الدول.
هي حقبة «العسكريتاريا» في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وقد جاءت إجراءات بوش مكمّلة لسياسات وضعت من قبله.

«أخذ علم واطمئنان»

بهذا المعنى، الفضل في «قطع حساب» أوباما يعود إلى الذين فعلوا تغييراً ولم يتركوا له إلا خيار أخذ العلم به. من دون شك أوباما بريء من هذا التاريخ، وقد طلب عدم تحميله مسؤولية سياسات صيغت عندما كان «لديّ من العمر ثلاثة أشهر ونصف شهر». ولذلك بالذات، من الممكن مطالبته بمعرفة واقع كان متبلوراً أيام دراساته الجامعية في كولومبيا أو هارفارد في ثمانينيات القرن الماضي.
لا يهدف هذا التذكير بالتقليل من أهمية التغيير الذي يمثله الرئيس الأميركي الجديد. مَثَل وحيد وحديث: أيام بوش أعلنت الإدارة أنها لن تتعامل مع السلفادور إذا فاز المرشح اليساري، وأيام أوباما أعلنت أنها ستحترم نتائج الانتخابات أياً يكن الفائز. كلام أوباما عن «الاهتمام بالمستقبل لا بالماضي» أو عن «الاعتراف بالنتائج الانتخابية مهما كانت» أو عن «اللجوء إلى وسائل أذكى من مجرد قوتنا العسكرية» أو عن «التفاوض والتصرف باحترام مع من نختلف معه ليس دليل ضعف»، كلها تنويعات تدل على أن أوباما يبدأ، مع حفظ فارق الشخصية والظرف، من حيث بدأ الرئيس الأسبق جيمي كارتر. أين سيصل، وهل قطع الحساب هو فقط مع منهج بوش الفاشل أو يشمل أكثر من ذلك؟ الجواب رهن امتحان الواقع.
واقع تبقى فيه الولايات المتحدة، بالرغم من جميع التغييرات التي حصلت، أول شريك تجاري مع كل دولة أميركية لاتينية على حدة، وبالتالي أول شريك اقتصادي مع المنطقة ككل، إضافة إلى أنه يعيش في الولايات المتحدة 12.7 مليون مهاجر مكسيكي (أي واحد من كل عشرة ولدوا في المكسيك) وأكثر من خمسة ملايين مهاجر من أميركا الوسطى.
يمهّد أوباما لمقصده بواقعية «مهما كانت قوتنا بكوننا دولة، نبقَ دولة واحدة، فيما المشاكل مدوّلة»، لأن هذه الخلفية تطمئنه إلى أن «لا أحد في القارة ـــــ بمن فيهم أشد خصومنا ومنتقدينا الجمهوريين ـــــ يتمنى أن يتعطل اقتصادنا ويتعرّض للآثار التي قد ترتد عليه». من هنا، ثقته بجدوى الانكباب العملي على الملفات، بدلاً مما يسميه «الخندقة العقائدية». انكباب من منطلق وجود مصالح مشتركة كافية لدفع العمل «الذي يجب ألا يتعطل، والاحترام ألا يفسد حتى في حال بروز الخلافات»، وحتى في هذه الحالة، يبقى إمكان العمل المشترك في «الهوامش».
يبدو هذا الكلام للوهلة الأولى مجرّداً وشكليّاً، وقد يكون كذلك في مناطق أخرى تتطلب اجتراح حلول. أما في حالة أميركا، فهو ليس كذلك، إذ يضمن عدم ترك الفرز يتمحور حول الردّ على مشروع الولايات المتحدة، ويوفر أخذ مصالح الولايات المتحدة في الحسبان بأقل كلفة، ويفك عزلة أصدقاء الولايات المتحدة. في حقبة بوش، كان هؤلاء في موقف حرج. اليوم في حقبة أوباما، أشرس المنتقدين هوغو تشافيز يقول: «أريد أن أكون صديقك».
كان بوش يضخّم خطر تسلح تشافيز ونهجه لتسليط الأضواء عليه. مبسطو الأمور ـــــ لأن الحاسم دائماً داخلي ـــــ رأوا أن هذا التضخيم خدم في المكسيك والبيرو ولم يفد في بوليفيا والإكوادور. أوباما بالعكس يريد إطفاء الأضواء عنه («ميزانية دفاع فنزويلا هي 1/600 من ميزانيتنا») ليهزأ بمن يروجون أن شكليات مثل مصافحة أو تبادل كتاب أو حوار هادئ «قادرة على تهديد مصالح الولايات المتحدة أو إضعافها». هنا صار الكلام ـــــ المقتبس من المؤتمر الصحافي بعد نهاية قمة الأميركيات ـــــ موجهاً إلى الرأي العام في الولايات المتحدة.

مِننا؟

مصير نهج أوباما يتوقف حتماً على إقبال الآخرين عليه في المنطقة، وأيضاً على مدى إنجازات الولايات المتحدة في ساحات أخرى. لكن منذ الآن، أدى «الانفصام» عند أوباما إلى «انفصام» معاكس في صفوف اليسار اللاتيني، التي كانت الأنتي ـــــ أميركية الغرائزية وقانونها الموازي «كل من هو ضد بوش حليفنا» أحد أعمدته. ما يدل على ذلك أن لولا وموراليس وآخرين في مناسبات عديدة «نسّبوا» أوباما إلى حركة التغيير التي أوصلتهم إلى السلطة، تلك التي فتحت الأبواب لفئات لم يكن لها فرصة الوصول. وتشافيز دعاه إلى «تبني الاشتراكية والالتحاق بنا»، فيما تبنّى الرئيس السلفادوري موريتسيو فونيس، آخر رئيس يساري انتُخب، أوباما كمصدر إلهام.
مجرد اعتبار أوباما «مِننا» يدل كم تغيّرت أيام اليسار ويشير إلى أنه بات على هذا الأخير تشغيل محرك التفكير وعدم الاكتفاء باللجوء آلياً إلى العقل الأميركي المقلوب.
بعد اليوم، صار أصعب على أي فنزويلي (أو أميركي لاتيني) أن يردد عبارة كان لها رواجها خلال السنوات الماضية: «واحد مثل بوش يستحق واحد مثل تشافيز».


الاستثناء الكوبي

كوبا هي الاستثناء من تغييرات أوباما. ليس لأن في كوبا حكم الحزب الواحد، فالولايات المتحدة حليفة دول حتى من دون أحزاب، بل لأن المقاربة الأميركية لكوبا حولتها إلى مسألة «داخلية». أوباما أخذ علماً بـ«عودة» كوبا إلى أميركا اللاتينية، وربط رفع الحصار بنتائج تفاوض ثنائي غير مشروط. التفاوض غير مشروط، لكن رفع الحصار رهن تنازلات كوبية. اعتراف أوباما بفشل السياسة المتبعة من عشرة رؤساء لا يعني أنه ينوي في بداية ولايته نقضها، ربما في الولاية الثانية. وبالتأكيد لن يتراجع فيديل كاسترو عمّا يسميه «حرب الأفكار»، إلا أن الدبلوماسية البرازيلية ترى فسحة قابلة للتفاوض في نموذج «فيتنام استوائي» (اقتصاد سوق ومكتسبات اجتماعية، وحزب واحد مع حريات). في آسيا، وجود الصين مبرر كاف لهذا النموذج.