مرت سنتان على انتخاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. الصحافة ومراكز الدراسات اهتمت بإجراء «جردة حساب» لما استطاع تنفيذه من وعود ولما عجز عن القيام به
باريس ــ بسّام الطيارة
يرى المراقبون أن الأزمة التي هزت أركان الاقتصاد العالمي جاءت بمثابة «عوامة» لتنقذ نيكولا ساركوزي من الغرق في حسابات تقهقر الوضع المالي لفرنسا، ولتذوِّب «نتائج ما صنعه» في وحول الأزمة، بحيث تضيع مسؤولية مسار القطيعة في مسار الأزمة المالية.
إلا أنه بعدما انقشع غبار العاصفة المالية وآثارها الكارثية، أتت أولى الأرقام لتدل على أن الأزمة أصابت فرنسا بأقل ما أصابت غيرها من اقتصاديات الدول المتقدمة، وأن «النموذج الفرنسي اليعقوبي» استطاع الصمود أكثر من النموذج الليبرالي الأنكلوساكسوني، الذي كان حتى أشهر خلت لا يكلّ عن انتقاد النمط الفرنسي الجامد في تسيير الاقتصاد وعرقلة النمو.
وقد انكبّ الخبراء على دراسة أسباب هذا التمايز بين الحالة الاقتصادية الفرنسية، التي «كانت توصف بالمحبطة»، والاقتصاديات الأنكلوساكسونية، التي وصفت بـ«الديناميكية»، وخصوصاً أن «الوصفات العلاجية» التي أنتجتها القمم المتعاقبة لمواجهة الأزمة هي أقرب للنمط الاقتصادي الفرنسي من النمط الليبرالي.
وقد انتقد كثيرون «انتهازية» ساركوزي واحتلاله الواجهة الإعلامية لتقديم الحلول والوصفات، إلا أنهم لم «ينتبهوا» إلى أن ما يقدمه الرئيس الفرنسي هو «نقيض ما بدأه قبل سنتين»، وأن طروحاته لمعالجة الأزمة العالمية هي تماماً عكس سياسته الليبرالية التي أنزلت إلى الشوارع متظاهرين بأعداد فاقت كل ما شهدته مدن فرنسا منذ سنوات عديدة.
ساركوزي أتى من يمين الليبرالية الفرنسية بهدف نزع كل آثار التوجه الديغولي، الذي لوّن يمين الوسط ويسار الوسط في فرنسا، لإقحام البلاد في مسار الليبرالية المحافظة، مشيراً بإصبعه إلى بريطانيا والولايات المتحدة وديناميكية اقتصادهما. وتعهد بذلك أمام ناخبيه قبل سنتين خلال الحملة الانتخابية، ما جعل طروحات منافسته سيغولين رويال أقرب إلى روحية حزبه «تجمع الأكثرية الشعبية» الديغولية. وما إن وصل إلى الإليزيه حتى بادر إلى تطبيق وعوده الانتخابية، فقدم ما بات يسمى «الهدايا الضرائبية» لطبقة الأغنياء وأطلق مسار الإصلاحات الهادفة إلى «خصخصة بقايا جواهر التاج الفرنسي»، إضافة إلى خططه لتخفيف أعداد الموظفين، وخصوصاً في مجالات التربية والتعليم والسعي لوضع البحث الجامعي ومراكز الأبحاث في «دوامة الربحية في القطاع الخاص». ولمحاربة هذه السياسة، فإن الجامعات الفرنسية ومراكز الأبحاث مضربة منذ ثلاثة أشهر ونيف، مع تظاهرات «مليونية» بين الفينة والأخرى.
السياسات هذه مخالفة بقوة لكل التوجهات الجديدة لعالم ما بعد الأزمة، التي «سوّق لها ساركوزي» بفخر. فإن كل الدراسات الأخيرة تشير إلى أن «ما أنقذ فرنسا» وخفف من عواقب الأزمة عليها هو هذه «الشوائب»، التي أراد الرئيس الفرنسي نزعها. فقد أشارت دراسات صندوق النقد الدولي إلى أن وجود ٥,٢ ملايين موظف في فرنسا، أي ٢١ في المئة من العاملين، ساعد في استيعاب الضربة المالية، إذ رفع من عدد العاملين الذين لا يتأثرون بحلقة الركود التي دخلها الاقتصاد العالمي، يضاف إليهم المتقاعدون، حيث أدى «نظام الضمان الاجتماعي الشامل» دوراً تخفيفياً من دون شك، وأسهمت هذه العوامل في إبقاء «زخم استهلاكي»، ما حال دون توقف العجلة الاقتصادية.
أما من ناحية النظام المصرفي الفرنسي، الذي كان ينتقده الليبراليون بسبب «تراكم القوانين المعرقلة لحرية العمل»، فقد أثبت أنه كان رادعاً قوياً أمام «انزلاق» الفرنسيين في المديونية. إذ لا تمثل «المديونية المرتهنة» في فرنسا سوى ٣٥ في المئة من الناتج المحلي بسبب سياسة تأطير القروض التي تفرضها الدولة، بينما تبلغ نسب المديونية هذه في بريطانيا ٨٦ في المئة، كما هو الأمر في الولايات المتحدة. إنها بعض العوامل التي يشير إليها الخبراء بأنها شكلت الدرع التي حمت فرنسا وخففت من وطأة الأزمة عليها.
ويطرح هذا سؤالاً عما إذا كان «ساركوزي ما بعد الأزمة مختلفاً عن ساركوزي ما قبلها؟». والواقع أن «الانعطافة التي سجلها حديث ساركوزي في قمة الـ٢٠ في لندن»، وقبل ذلك، لا تنعكس على سياساته في الداخل.
من هنا يظهر الانفصام الذي تعيشه الساركوزية، إذ إن اقتناع قاطن الإليزيه بـ«ليبرالية مطلقة» لا يزال قوياً رغم أن التوجه العام، حتى في الولايات المتحدة هو نحو «ليبرالية محدودة». وينعكس هذا ذبذبة في القوانين والمسار العام لتطبيقها من جهة وزيادة في ابتعاد المواطنين عن مواكبة الاهتمام بالسياسة والسياسيين، ما يمكن أن يقود في الانتخابات الأوروبية المقبلة إلى «تراجع تاريخي» في المشاركة، وخصوصاً في ظل غياب أي معارضة ذات شأن للساركوزية.