ثورة غير واضحة المعالم بدأت تحبو في جورجيا. تظاهرات تعمّ شوارع العاصمة تبليسي وتطالب باستقالة الرئيس الجورجي، ميخائيل سكاشفيلي. كأن هذا البلد على موعد مع ثورة ملونة أخرى، لكن من صنع روسي هذه المرّة
موسكو ــ حبيب فوعاني
عاشت جورجيا في الأيام الأخيرة حرب أعصاب، انتهت ليل الثامن من أيار الجاري بإهراق للدماء. إلاّ أنه يصعب تحديد من خانته أعصابه أولاً في بلاد القديس جاورجيوس هذه؛ هل المعارضة، التي هاجمت مركز الشرطة في تبليسي حين تسلّق أسواره المطرب غيا غاتشيشيلادزه، شقيق المعارض الجورجي الرئيسي ليفان غاتشيشيلادزه، فضربه رجال الشرطة حتى كسرت يده؟ أم هو الرئيس ميخائيل سكاشفيلي، الذي أمر رجال الشرطة بإطلاق الرصاص المطاطي على المتظاهرين، فغطت الدماء وجوههم وأجسادهم؟
لا يبدو الرئيس الجورجي قلقاً حيال الدم المراق في سبيل «الديموقراطية» المنشودة، التي كانت قد بدأت بثورة الورود في عام 2003. وها هو يمضي في مسيرته لـ«دمقرطة» شعبه البائس، رغم أن شعبيته، وفقاً للمراقبين، لم تعد تتعدى ثكنات الشرطة والجيش والقوات الخاصة.
كان الزلزال في حرب الأيام الخمسة في أوسيتيا الجنوبية، بين روسيا وجورجيا، التي فضحت العسكريين الجورجيين. ووصفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ما جرى في آب الماضي قائلة: «... هرب الجيش الجورجي مخلفاً وراءه المدنيين لرحمة الأعداء. ولم تقم الطائرات الحربية الجورجية، إلا في الساعات الأولى، بأي طلعات، وبقيت القطع الحربية الجورجية راسية في موانئها فقطرها الروس... وحاربت جورجيا الطامحة إلى الانضمام إلى حلف شمالي الأطلسي بذلك القدر من السوء، الأمر الذي أساء إلى رغبتها في أن يُنظر إليها شريكاً جدياً عسكرياً محتملاً...».
وكما روى ضابط غربي، «غادر جنرال جورجي ساحة المعركة على متن سيارة إسعاف، تاركاً جنوده لمشيئة الأقدار. وأصاب الذعر الجنود الجورجيين، فهربوا إلى العاصمة. وهم لم يتركوا مدينة غوري بغير دفاع فعّال فحسب، بل غادروها حتى قبل أن يقترب منها الروس. وخلال هروبهم الفوضوي، خلفوا وراءهم الكثير من الأسلحة...».
شيء واحد يفتخر به سكاشفيلي، ويؤكده المتخصصون في الشؤون الجورجية، وهو أن رجال شرطة السير لا يأخذون الرشى من السائقين على سبيل المثال. وعموماً، لا يعشّش الفساد في جورجيا مثلما هو جار في دول الاتحاد السوفياتي السابق.
فوفقاً للخطة التي وضعتها الولايات المتحدة للرئيس الجورجي، أُلغيت آلاف الوظائف الحكومية، على أمل أن يجد أصحابها عملاً لهم في القطاع الخاص. لكن لم تكن لدى هؤلاء الخبرة اللازمة أو الكفاءة أو حتى الرغبة في ذلك، وكاد مئات الآلاف منهم أن يموتوا جوعاً قبل أن ينضموا إلى المعارضة.
في المقابل، فشلت جورجيا في حياكة علاقات جيدة مع روسيا أو جيرانها. إذ لا يزال الجورجيون يطالبون تركيا (وإن بصورة غير رسمي) بحقوق تعود إلى العهد العثماني في الأراضي التركية. ولها مع أرمينيا وأذربيجان كذلك مشكلات تعود إلى المعاملة السيئة والمضايقات التي تتعرض لها الأقليات الأرمينية والأذربيجانية من مواطني جورجيا (وإن لم يكن ذلك أيضاً على المستوى الحكومي).
أما إيران، فتتحمل مسؤولية حكم الدولة الصفوية لبعض ولايات جورجيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وتبث الإيديولوجية الجورجية الجديدة روح الكراهية للإسلام، ويجري الترويج لاعتبار الجورجيين المسلمين عاراً على الأمة الجورجية المسيحية.
وهاجمت قوات سكاشفيلي أجاريا، في أيار 2004، وحولت هذه الجمهورية ذات الحكم الذاتي والأغنى في جورجيا بفضل حكمة رئيسها أصلان أباشيدزه (الموالي لموسكو)، إلى منطقة بائسة تُمد بالكهرباء لمدة ساعتين في النهار فقط. ويجري فيها (وذلك بالطبع على المستوى غير الرسمي) مضايقة الأقليات والمسلمين الذين تبلغ نسبتهم 90 في المئة من سكانها وفق تقديرات تعود إلى عام 2002.
غير أنه لا عامل هداماً في سياسة الدولة الداخلية مثل هزيمتها في الحرب مع دولة أخرى. ولعل هزيمة روسيا القيصرية في حربها مع اليابان عام 1905 هي التي أشعلت فتيل الثورة الروسية الفاشلة الأولى في ذلك العام، والتي تبعتها الثورة البلشفية الناجحة عام 1917.
ولا شك في أن إرسال سكاشفيلي جنوده إلى الموت المحقق في آب الماضي لن يمر من دون عواقب. واعتصامات المعارضة المتواصلة في تبليسي ستعجل بالمسارات السياسية في هذه الجمهورية القوقازية القلقة. لكن الثورة هذه المرة لن تكون برتقالية أو وردية، بل سيصبغها اللون الأحمر.