قلق من توسّع النفوذ التركي... ومخاوف من دخول جورجيا الحضن «الأطلسي»موسكو ــ حبيب فوعاني
كان القوقاز على امتداد التاريخ مسرحاً لصراع الإمبراطوريات الروسية والفارسية والعثمانية. لكل منها مصالحها الجيوستراتيجية في هذه المنطقة المتنوعة الأعراق والديانات والثقافات. وشكّل طموح هذه الإمبراطوريات لتعزيز دورها سبباً لتحولات دائمة دينية وسياسية. وتميز القرن الحادي والعشرون، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتزعزع مواقعه، بانتعاش مصالح إيران وتركيا الجيوستراتيجية ونفوذهما التقليدي في حديقة موسكو الخلفية مجدداً.
في السنوات الأخيرة، تتابع طهران باهتمام بالغ التطورات السياسية في هذه المنطقة. وهي تحاول على قدم المساواة مع اسطنبول وموسكو، التأثير على مختلف المسارات المرتبطة بدول جنوب القوقاز ـــــ أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا.
وينظر صنّاع القرار الإيرانيون إلى تركيا على أنها منافس سياسي خارجي للجمهورية الإسلامية في القوقاز على المدى القصير، وروسيا على المدى المتوسط. ويمكن في هذا السياق استجلاء هذا الاتجاه:
تنظر إيران إلى تركيا قبل كل شيء على أنها دولة كانت لها دائماً مطامحها الخاصة بتعزيز نفوذها في هذه المنطقة، ما جعلها المنافس العسكري ـــــ السياسي الرئيسي لإيران. لذا، يثير تفعيل اسطنبول الحالي الحثيث لنشاطها السياسي الخارجي في القوقاز القلق لدى طهران.
وهنا يجب تحديد نظرتين إيرانيتين أساسيتين نحو القوقاز:
الأولى راديكالية: تنظر إلى القوقاز على أنها منطقة عازلة على المدى القصير بين روسيا وتركيا وإيران. وباعتبار أن طهران تمتلك كل الفرص لتعزيز دورها في المنطقة، فيجب اتباع سياسة مرنة مع دول القوقاز الثلاث الرئيسية: أرمينيا، جورجيا وأذربيجان.
وتنظر المجموعة الراديكالية إلى أرمينيا وأذربيجان على أنهما دولتان يجب أن تدخلا في ما يسمى «المدار الإيراني»، وتعتبرهما مجالاً حيوياً لمصالح إيران ونفوذها الأساسي في السياسة الخارجية والاقتصادية والإثنية ـــــ الدينية. حتى إن بعض هؤلاء يسمّون أذربيجان «الزوجة الخائنة» لنزعتها الغربية وولائها لتركيا. أما أرمينيا، فهي «العشيقة الوفية» لتعاونها مع طهران في موازنة التوسع التركي في القوقاز.
وإضافة إلى ذلك، يعتبر هذا الجناح أكثر محافظةً بالنسبة إلى موضوع إقليم ناغورني قره باخ من الجناح الليبرالي في وزارة الخارجية الإيرانية.
وبعبارة أخرى، وبسبب محاولات الغرب، عبر تركيا وأذربيجان، زعزعة الاستقرار القومي في إيران نفسها، يرى الراديكاليون في السلطة الإيرانية في الوقت الحاضر، أن الوضع القائم في نزاع ناغورني قره باخ مربح لإيران. وهم على ثقة بأن انفصال أذربيجان بالحاجز الأرمني عن محافظاتها المجاورة لإيران، حيث يعيش الأذربيجانيون الإيرانيون الناطقون باللغة التركية، يضمن للجمهورية الإسلامية الحماية من محاولات الغرب لجعل شمال إيران في حالة توتر دائم.
وفي هذا السياق، فإن تمسّك الأرمن بإعلان الإقليم دولة مستقلة، يعدّ بنظر الإيرانيين عائقاً منيعاً أمام توحّد أتراك أذربيجان وأتراك إيران. أما الاتجاه الثاني، الليبرالي، فيرى أنه إذا قامت طهران بدور ملحوظ في الوساطة لحل نزاع ناغورني قره باخ، فهي لن تجهض محاولات تركيا وروسيا والولايات المتحدة للتأثير على النزاع لمصلحتها وحسب، بل ستتمكن من التأثير على سياستي يريفان وباكو.
وبالنسبة إلى جورجيا، ينظر الجناح الراديكالي بسلبية إلى النهج السياسي الحالي في تبليسي، ويسعى إلى إنشاء عوامل ضغط مختلفة على هذا البلد. فهذا الجناح على ثقة بأن انضمام جورجيا إلى حلف شمالي الأطلسي لن يضعف دور إيران في هذه المنطقة وحسب، بل سيسبب لطهران «وجع رأس» جديداً، يضاف إلى الوجود الأميركي في العراق وأفغانستان. ويميل هذا الجناح، بعد أحداث القوقاز في آب الماضي، إلى إقامة اتصالات مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وموسكو للتعاون في مسألة الضغط السياسي والعسكري على جورجيا. وأصبح تطور الأحداث هناك سبباً لحملة إعلامية ضخمة في إيران صوّرت جورجيا على أنها عدوّ، واعتبر تعزيز الوجود العسكري التركي ـــــ الأميركي فيها بمثابة رأس جسر للهجوم على إيران.
وما يثير قلق الليبراليين والمحافظين الإيرانيين على حدّ سواء، هو التفعيل الملحوظ للنشاط التركي في المنطقة. وتعتبر طهران أن السياسة التركية الحالية في المنطقة توسّعية لأن أنقرة، التي تحدثت في 22 نيسان الماضي عن إمكان فتح حدودها المغلقة مع أرمينيا، تستطيع التأثير على سياسة يريفان بشكل أفضل عندما تفتح الحدود. ولا يمكن إلا أن تثير قلق طهران المحاولات التركية للانخراط في مسار حل مشكلة ناغورني قره باخ.
وتخشى موسكو وطهران بعد بدء الاتصالات الأرمينية ـــــ التركية، أن تصبحا خارج اللعبة، ما يمكن أن ينعكس على العلاقات الأرمينية الإيرانية الروسية. وأكثر من ذلك، تبدو طهران قلقة من وقوع يريفان في أحضان الحلف «الطوراني» المتعاظم في المنطقة، ما سيجبر طهران على تفعيل اتجاهها الأذربيجاني، الذي تأمل أن يؤمّن نفوذها في هذه المنطقة.