غالباً ما تخيّم على أيّ لقاء أميركي ــ روسي رهبة ما، لا ترتبط فقط بالتوتر المزمن بين البلدين، بل بماضٍ متشنّج كاد أن يتحول يوماً إلى حرب نووية. إلا أن الاتفاق على تقليص هذا السلاح اليوم، يمثّل الشرارة الأولى للقربى بين البلدين مجدداً
ربى أبو عمو
سقط الاتحاد السوفياتي واختلّ معه ميزان القوى الذي وقفت عليه روسيا والولايات المتحدة على مسافة واحدة. تبايُن حجم «القوة» رافقته توترات مستمرة وصلت إلى مرحلة «الأزمة» في عهد الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، وخصوصاً بعد حرب جورجيا. إلا أنه أخيراً، بعد انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، في ظل أزمة اقتصادية تعمّ العالم، اختلفت لغة الحوار بين القطبين واتخذت قواعد أكثر إيجابية. وبأسلوب فريد، حاول الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف الالتفاف على هذه الإيجابية. فبدلاً من الكلمات والتهديدات التي اعتادت روسيا إطلاقها، عمد إلى ابتكار أسلوب جديد لإيصال الرسائل والخطوط الحمراء الروسية إلى واشنطن، في أول لقاء له مع الرئيس الأميركي في لندن منذ انتخابه، على خلفية قمة مجموعة العشرين؛ فبعد المقال الذي نشره مدفيديف في صحيفة «واشنطن بوست»، أول من أمس، وأشار فيه إلى «الإرادة المتبادلة لبناء علاقات ثنائية ناضجة وبراغماتية، على غرار علاقات الأعمال»، جاءت الرسالة الثانية على شكل سيارة «ليموزين»، أقلّته إلى مقرّ القمة. ميزة هذه السيارة أنها قابلة للتحوّل إلى شبه «أيقونة» تجسّد «الحذر الأبديّ» بين البلدين، والخوف من أي انقضاض. فكيف إذا تبيّن أنها صمّمت خصّيصاً لهذه المناسبة، بكلفة بلغت 60 مليون دولار، مع تجهيزات خاصة لمواجهة أي هجوم نووي صغير.
وكأن روسيا أرادت المقارنة بين سيارتي مدفيديف وأوباما، إذ قال مسؤول في الكرملين، رفض الكشف عن اسمه، إن «السيارة الأميركية جيدة في حال تعرضها لصعوبة بسيطة، لكن سيارتنا جاهزة للحرب».
قد لا تحظى سيارة مدفيديف المضادة للنووي باكتراث أميركي مباشر، في ظل وجود نية متبادلة للسير فوق الخلافات بين البلدين. أمرٌ بدا واضحاً في البيان المشترك الذي أصدره الرئيسان عقب لقائهما أمس، وتبنّيا فيه العمل على وضع اتفاق جديد للحد من الأسلحة النووية. ملف ليس إلا جزءاً من قضايا شائكة عديدة، لكنه يمثّل بداية جيدة، يمكن من خلالها استدراك أهمية الفهم المشترك كل منهما للآخر، الأمر الذي يدخل في إطار الفهم «السيكولوجي» بين البلدين، يليه السياسي.
منذ يومين، نشرت صحيفة «كومرسانت» الروسية تقريراً صادراً عن الإدارة الأميركية بعنوان «الاتجاه الصحيح في السياسة الأميركية تجاه روسيا». يحاول هذا التقرير لفت النظر إلى أن الإدارات الأميركية السابقة عجزت عن فهم روسيا، وأنه من أجل بناء علاقة حقيقية، يجب على الإدارة الجديدة أن تعي وتفهم المصالح الروسية كما يراها الروس أنفسهم.
هذا الفهم للعقلية السياسية الروسية، يتحتّم عليه لاحقاً مساعدة روسيا في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، والاعتراف السياسي بمصالحها في دول الاتحاد السوفياتي السابق، ما يترتب عليه بصورة أساسية عدم ضم أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمالي الأطلسي.
والأهم من ذلك، يشير معدّو التقرير إلى نقطة أساسية تتمثل في أن عزم واشنطن على تحسين علاقاتها مع موسكو ليس مكافأة للأخيرة على سلوكها على الساحة الدولية، بل هو مقرون بالحاجة الأميركية إلى التعاون مع روسيا في بعض القضايا التي عجزت عن تحقيق تقدم فيها حتى الآن (إيران، وأفغانستان، وتوسّع الأطلسي شرقاً).
في المقابل، يقدم الخبير في الشأن الروسي، ديمتري ترينين، رؤيته حيال ما يمكن أن تفعله روسيا تمهيداً للتقارب، أولها الاستفادة من أخطاء الماضي. واللافت هو إشارته إلى أهمية أن تضع روسيا «أهدافاً واقعية. إذ إن محاولة لإقامة علاقة على قدم المساواة من الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة محكوم عليها بالفشل منذ البداية».
كذلك يركز ترينين على خطر الهاجس الروسي الدائم تجاه أميركا، الأمر الذي «يضيّق خياراتها خارجياً».
تنحصر الملفات المشتركة وأحياناً الشائكة بين القطبين في الملف النووي الإيراني، والإرهاب، وأفغانستان، والدرع الصاروخية، وتوسّع الحلف الأطلسي إضافة إلى الملف النووي الكوري. وقد أدى غياب لغة التواصل المشتركة بشأن هذه الملفات إلى عدم وجود شراكة اقتصادية بين البلدين، والتي تقع بطيبيعة الحال ضمن الأولويات الروسية للارتقاء مجدداً إلى المستوى الأميركي الاستراتيجي، في مقابل إدراك أميركي لأهمية المساعدة الروسية. وعليه، فإن الإحساس السياسي بالآخر، والواقعية في التعاطي، قد يكونان أساساً لبداية حقيقية بين البلدين، شرط مراعاة الخطوط الحمراء لدى الجانبين، وهي كثيرة ومتشابكة.