بكين توظّف الأزمة غروراً دوليّاً وواشنطن تتّكئ عليها وأوروبا نحو مزيد من التراجعنيويورك ــ نزار عبود
لم تعد الولايات المتحدة الكتلة الاقتصادية الأكبر في العالم. أما أوروبا واليابان وروسيا فباتت تشعر بأن الركائز الاقتصادية تهتز تحت صروحها المالية. وحدها الصين، التي حافظت على نظامها القديم وكسته بلبوس الحداثة والتطور الصناعي، ليست مستعدة للتخلي لا عن العولمة ولا عن نظامها الشيوعي؛ فهي الوحيدة القادرة على جمع الأضداد والمباهاة بأنها نجحت في ما فشل الآخرون في تحقيقه. ويبدو أنها وجدت أن الوقت قد حان لترجمة ثقلها السكاني والاقتصادي الهائلين إلى قوة سياسية فاعلة على الساحة الدولية بعدما مارست طويلاً السياسة باستحياء.
وزن سياسي حرصت بكين على إخفائه خلال مرحلة طويلة بانتظار أن يشتد عودها، فإذا بالأزمة الاقتصادية تقصّر فترة الانتظار وتضعف جميع خصومها.
ولا يمكن الحديث في قمة العشرين عن فائض مالي غير الفائض الصيني القادر على إحداث تغيير نوعي في المعادلة الدولية. فهذه الدولة، التي انتزعت في السبعينيات من القرن الماضي حق النقض داخل مجلس الأمن، سجّلت أخيراً نقلة نوعية في سياستها الخارجية عندما برزت كلاعب أساسي في قضايا تؤرق الولايات المتحدة وأوروبا، مثل إيران والسودان وكوريا الشمالية. أضف أنها لا تزال محاوراً رئيسياً مع دول الشرق الأوسط إلى جانب روسيا.
واليوم، تمتلك الصين تريليون دولار (ألف مليار) في الولايات المتحدة، باتت قيمتها أضعافاً مضاعفة نتيجة تدهور قيمة أصول الأعمال الأميركية من مصانع ومبان ومنتجات ومواد أولية. وبالتالين تحوّلت إلى «شريك الأمر الواقع» في القرار الداخلي الأميركي. دور لم تتمكن أي دولة أخرى من بلوغه في السابق وعبّر عنه رئيس الوزراء الصيني وين جياباو أخيراً عندما قال إن الصين «تشكل قوة عظمى»، معرباً في الوقت نفسه عن قلق بلاده من تأثير «إسراف الولايات المتحدة» على استثمارات الصين في أميركا. همٌّ سارعت واشنطن إلى تطيمنه خشية أن يُغرق الصينيون الاقتصاد الأميركي بأزمات جديدة في حالة حصول مجابهة مالية في زمن الوهن الاقتصادي.
وعندما استقبلت الصين وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، قبل أسابيع، اتّسم اللقاء بالندية نظراً إلى حاجة الولايات المتحدة الشديدة للصين من مختلف النواحي السياسية والمالية. وليس هناك ما تحتاجه الصين حالياً من الولايات المتحدة سوى مواصلة تصدير سلعها، في وقت ضعفت فيه قدرة المواطن الأميركي الشرائية. كذلك ليس هناك ما ترتجيه منها ما دامت واشنطن لم تصل بعد إلى مرحلة القدرة على المساومة حول وضع تايوان وإعادتها إلى كنف الوطن الأم.
كذلك أبدت بكين موقفاً استفزازياً حيال واشنطن في وقت سابق الشهر الماضي عندما «تحرّشت» بسفينة تجسس أميركية في بحر الصين في استعراض متعمد على الأرجح لقوتها.
ويبقى أهم ما سجّلته قمة لندن سياسياً، هو اجتماع الرئيسين باراك أوباما وهيو جينتاو، أول من أمس، ودعوة الأخير لضيفه الأميركي لزيارة بكين. في المقلب الآخر، لم يحصل لقاء قمة صيني ـــــ أوروبي، باستثناء لقاء هيو مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وهو ما فسّرته الدوائر الغربية باستخفاف الصين بالدور الأوروبي الآخذ في الأفول، بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يحتل المركز الاقتصادي الأول في العالم، وإن كان النمو الصيني يهدّده سريعاً.
إزاء هذه الأوضاع المتغيرة في الكتل السياسية الدولية، تبدو الساحة مهيّأة لإعادة خلط الأوراق، ولا سيما مع فقدان قيادات تقليدية أوروبية أدوارها الحاسمة. غير أن أهم ما يمكن أن يحدث هو ظهور تحالف صيني ـــــ أميركي، ولو كان محدوداً بالاقتصاد، لأنه قد يقلب الأوضاع رأساً على عقب. فالصين لم تعرف الركود الاقتصادي الذي عرفته كل الدول الأخرى. ولا يزال صندوق النقد الدولي يتوقع نمواً لديها لا يقل عن 6.5 في المئة هذا العام، مقابل انكماش قد يصل إلى 2 في المئة في دول صناعية كبرى.
من هذا الموقع، وحدها الصين قادرة على تنظيم الانهيار المالي الكبير وامتصاص الصدمة الهائلة التي تعرضت لها الرأسمالية الغربية والخروج منتصرة. وذلك يمكن أن يتم من خلال شراء المصانع الأميركية المتعثرة ونقل معداتها إلى الصين لكي تواصل العمل هناك بكلفة أقلّ بكثير. كما يمكن أن تبقي الصين أموالها في الولايات المتحدة وتحصل على دور الشريك في صنع القرارات المالية.
أمر مشابه نوعاً ما لما فعلته اليابان في فترة السبعينيات من القرن الماضي عندما وظّفت فائض أموالها في شراء أصول أميركية وعادت لاحقاً لتصدّر مصانع سياراتها وأجهزتها الإلكترونية المتطورة إلى أوروبا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية. ولكن الفارق كبير هنا، إذ إن الصين دولة نووية كبرى، وصاحبة الكثافة السكانية الأكبر في العالم، ولها مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وحليف دائم لروسيا. وعليه، فلن تقتصر الشراكة على القضايا المالية البحتة.
نصّبت قمة لندن كاسبين وخاسرين. والصين ظهرت في مقدمة الرابحين، بينما يبدو أن الأوروبيين سيكونون الخاسر الأكبر. أما واشنطن، فهي تعمل على الحدّ من خسائرها بالاتّكاء على الكتف الصينية ضمن أقل تنازلات ممكنة.

(رويترز)