يمكن القول إن فرنسا أنهت فترة «الحداد» على الاعتداءات الدموية الأخيرة باختتام «مسيرة الجمهورية» أول من أمس، ما فتح الباب أمام مرحلة جديدة تشتبك ضمنها عناصر داخلية وخارجية.ضمن المشهد السياسي الفرنسي، فإن الأكيد أن الفترة الممتدة من تاريخ وقوع الاعتداء ضد «شارلي إيبدو» إلى حين تقدم الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، حشوداً شعبية ووفوداً رسمية في باريس، أعادت إلى الأخير هيبة رئاسية كانت تتآكل بفعل تراكم أزمات اقتصادية وسياسية، خلال ولايته.

وقد تكون من بين أبرز الأدلة على الصعوبات التي تواجه هولاند أنه اضطر قبل أشهر (نهاية آذار الماضي) إلى استبدال فريقه الحكومي، معيّناً مانويل فالس رئيساً للوزراء، والذي يصفه البعض بأنه «يمثّل أقصى اليمين ضمن العائلة اليسارية». واستطراداً، فقد جاء اختيار وزير الداخلية السابق لهذا المنصب جواباً على «تنامي التحديات الأمنية»، وكذلك، محاولة للحد من التأثير المتزايد لخطاب «يميني» لطالما استثمر في الإشكاليات التي تطرحها مسائل مثل الهجرة أو «واقع المسلمين في المجتمع الفرنسي».
وكان هولاند الرئيس الأول الذي يشارك في تظاهرة منذ عام 1990، حقق خلالها، أيضاً، نجاحاً ديبلوماسيا من خلال مشاركة مجموعة استثنائية من رؤساء الدول والحكومات. وفيما يقول المؤرخ ميشال فينوك إن الرئيس الفرنسي «بدا جديراً وحازماً وجامعاً» خلال الأيام الماضية، يرى الأكاديمي فيليب برو، في حديث إلى «فرانس برس»، أنه «في السياسة ليس هناك شخصية استثنائية، بل إسقاطات استثنائية»، بمعنى التطلعات والآمال والعواطف المعلقة على «القائد». ويشير برو إلى أنه «مهما كانت الشخصية ضعيفة، فإن هناك لحظات ترفع السياسي إلى الأعلى».
تطرح المرحلة المقبلة مسائل
قد لا ينجح هولاند في إدارتها

إلى جانب ذلك، إن كان بالإمكان تأكيد الصورة الإعلامية الناجحة لرئيس استطاع «توحيد الفرنسيين» في مرحلة حرجة، لكن مرحلة ما بعد «المسيرة» تطرح مسائل قد لا ينجح في التعامل معها.
ويكمن الرهان الأول المطروح أمام الرئيس الفرنسي، اليوم، في إدارة مشهد مرتبك، له أبعاد عدة، داخلية وخارجية. كذلك يتكوّن المشهد من عناصر إشكالية، قد يكون أولها العنصر الأمني وليس آخرها المسائل الثقافية، والهوياتية، ذات الصلة بالاعتداءات الأخيرة.
ويسجل بعض الكتاب الفرنسيين لهولاند عدم توجهه بعد إلى اعتماد تعابير استخدمها، مثلاً، رئيس حكومته، حين تحدث عن «حرب على الإرهاب» أو «الإسلام المتطرف»، أو حتى أخرى ذهب إليها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي حين أفرد في حديثه حيّزاً للتقسيم بين «الحضارة» و«البربرية». وليست التعابير، وكذلك المصطلحات، التي يلجأ السياسيون إلى استخدامها في هكذا مراحل بالمعطيات الهامشية، بل هي تشكل زاوية رئيسية قد تحدد في ما بعد آليات التعامل مع إدارة المشهد وأفق المرحلة المقبلة.
وراهناً، ترتفع أصوات فرنسية تماثل بين التداعيات الداخلية لهجوم «شارلي إيبدو» وما تبعه، وبين ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية غداة «11 أيلول». ويذهب نواب فرنسيون إلى حد المطالبة بـ«باتريوت آكت فرنسي»، في إشارة إلى القانون الصادر في أميركا في تشرين الأول 2001، في عهد الرئيس جورج بوش.
على جانب آخر، يتحدث أكاديميون فرنسيون عمّا هو أبعد. ففي حوار أجراه مع صحيفة «لو فيغارو» (ليست هذه الصحيفة تفصيلاً ضمن المشهد الفرنسي اليوم)، يرفض الباحث جان بيار لوغوف اعتماد مجمل المسببات ذات الجذور الاقتصادية والاجتماعية والتهميشية لفهم ظهور «التطرف الديني» في فرنسا وأوروبا (على حدّ تعبيره)، محمّلاً في الوقت ذاته المسؤولية لرؤى «مسالمة» و«عمياء» طغت على المجتمعات الأوروبية في ما بعد حقب «التوتاليتارية». ويقول إنه «بعد سقوط جدار برلين، لم يعنِ، فقط، الإعلان عن نهاية مفترضة للتاريخ أن الليبرالية الاقتصادية يمكنها أن تزدهر من دون عقبات، لكنه أحال أيضاً الصراعات والحروب إلى ما يشبه عصور ما قبل التاريخ وغير ديموقراطية». ويرى الباحث الفرنسي أن الحلول والابتعاد عن «الاسلاموفوبيا» لا يكمنان في تنظيم «مسيرات وحدة» بل في طرح «أسئلة مشروعة». ويضيف في سياق حديثه أن الخشية المبررة من السقوط في الالتباسات لا يمكن أن تشكل حجة تحجب مواجهة الواقع.
ويقول لوغوف «في حال أردنا ذلك أو لا، فإن فرنسا في حرب ضد الإرهاب الإسلامي في أفغانستان، وفي مالي، وفي العراق، ولهذا الإرهاب وسائط في بلدنا. تلك هي الحقائق التي لدى البعض صعوبات لمواجهتها، لأنهم يعيشون منذ سنوات في وهم عالم مسالم».
ويشير حديث الباحث الفرنسي، كما الدعوات إلى تشديد الإجراءات الأمنية، وما يرافق ذلك من ردود فعل عنصرية، إلى حجم ما هو مطروح اليوم أمام المجتمع السياسي الفرنسي. ويضاف إلى كل ذلك ما تستنبطه الأحاديث عن «معاداة السامية»، وعلى هامشها استثمار بنيامين نتنياهو في المشهد ودعواته إلى «الهجرة» و«الحرب الواحدة على التطرف».
في المقابل، ليس من الخبث اليوم القول إن منفذي الهجمات الأخيرة في باريس هم فرنسيون منذ ولادتهم، وهم أبناء مجتمعات «الجمهورية»، وهذه ليست فرضية. وليست فرضية أيضاً أن هولاند من بين أكثر رؤساء «الجمهورية الخامسة» تدخلاً في الخارج (من «حرب» مالي مروراً بدور باريس في «حروب ليبيا» وصولاً إلى العراق فسوريا). واستطراداً، فأوروبياً أيضاً، كان وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، من بين مؤجّجي الصراع مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية.
قد تشرح هذه الوقائع، إلى حدّ ما، عدداً من الإشكاليات المطروحة في فرنسا اليوم، لكن في الوقت ذاته فهي لا تنفي مطلقاً أن ما شهدته المجتمعات العربية مؤخراً من صعود للتطرف الديني يفرض، أقله، إعادة طرح أسئلة حول الواقع الذي وصل إليه الإسلام اليوم.
(الأخبار، أ ف ب)