صحيح أن قمة الأميركيات انتهت ببيان ختامي صدر بالتوافق ولم يتضمن إشارة إلى عودة كوبا إليها، لكن أجواءها الحميمة وحلول «المصافحة مكان المواجهة» يؤكّدان أنّها كسرت حاجزاً من الجمود ودشنت «عهداً جديداً»
بول الأشقر
تضمنت الجلسة الافتتاحية لقمة الأميركيات خمسة خطابات، واحد عن كل منطقة من الأميركيات. وكان من المقرر أن تستمر كل كلمة عشر دقائق، إلا أن ثاني المتكلمين، رئيس نيكاراغوا، دانيال أورتيغا، الذي يمثل مجموعة دول أميركا الوسطى، خرق القاعدة وتكلم لمدة 45 دقيقة باسم مجموعة «ألبا»، قمة البديل البوليفاري، التي اجتمعت عشية القمة في فنزويلا، وقرّرت مسبقاً عدم توقيع البيان الختامي لأنه لا يتطرق إلى رفع الحصار عن كوبا.
وهذا ما حصل بالفعل، فقد صدر بيان «بالتوافق لا بالإجماع» كما وصفه المضيف رئيس وزراء ترينيداد وتوباغو، باتريك مانينغ، الذي أوكل إليه توقيعه باسم الجميع، رغم ما حملته القمة من أصداء إيجابية وصفها الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، بـ«التاريخية وبداية عهد جديد».
وفي الواقع، فإن التسوية وُقّعت قبل القمة، وخلال ساعات معدودة، حين صدرت ثلاثة تصريحات يمثّل جمعها مفتاح العقدة: رئيس كوبا، راوول كاسترو، يُبدي استعداده للتفاوض في جميع الأمور «من دون استثناء، ومنها السجناء السياسيون وأي موضوع آخر، وفق مبدأي التكافوء والسيادة»، وتُلاقيه وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، على نصف الطريق، فترى أن الرئيس باراك أوباما يرى أن السياسة المتبعة منذ عقود إزاء كوبا «أدت إلى فشل» وتشكر «انفتاح» راوول. ثم يصرح الأمين العام لمنظمة الدول الأميركية، خوسي ميغيل إنسولزا، بأنه ينوي اقتراح إلغاء القرار الذي طرد كوبا قبل 47 سنة خلال الاجتماع المقبل للجمعية العمومية للمنظمة، «وبعد ذلك تُقرر كوبا ما تريد فعله»، أي بدء الحوار بين الولايات المتحدة وكوبا بعد القمة، وهو شأن ثنائي بين البلدين، وخاتمته تؤدي إلى رفع الحصار، بعد أن تعود كوبا إلى المنظمة من الإطار الذي طُردت منه.
وفي العودة إلى قاعة القمة، فقد تحدث كل خطيب بلهجته الخاصة، فطالب مندوبو أميركا اللاتنية الأربعة برفع الحصار عن كوبا وعودتها إلى المنظمة. أما المتحدث الرابع أوباما، عن شمال القارة، فيدري أن المسألة هي الخط الفاصل في طلته الأولى على المنطقة، ويعرف أن مسألة كوبا قد تُفشل المؤتمر، إذ تحولت إلى نقطة استقطاب وإجماع لهوية لاتينية تتخطى انقسامات اليمين واليسار. عندها أعلن أن «الولايات المتحدة تبحث عن بداية جديدة مع كوبا»، فصفق الحاضرون، وسلك قطار القمة.
قبل توليه الرئاسة، لم يكن المواطن أوباما قد زار أي بلد أميركي ما عدا المكسيك، في خلال رحلة سياحية. وعلق مقربون من الرئيس البرازيلي، الذي حظي بأول زيارة منه بوصفه رئيساً لاتينياً، قائلين: «ليست مشكلة، فالرجل ذكي، يستمع ويتفاعل مع ما يسمعه، عقله منظم، يحب متابعة الموضوع، وله انفتاح من عاش في عوالم مختلفة». هذا بالذات ما يميّز أوباما عن سلفه، وما سيبقى من قمة الأميركيات الخامسة.
وفيما كان سلفه ينام بين جلسة عامة وأخرى، لم يهدأ أوباما وطلب عقد اجتماعات خاصة مع المنظمات الإقليمية للتعرف إلى الرؤساء. يصغي ويدوّن ملاحظاته ويعلق على ما يسمعه. مع دول الكاريبي التي بدأت تعاني من ارتفاع مستوى البحار من حولها، يدور الحديث حول الاحتباس الحراري. مع دول أميركا الوسطى التي تعاني أكثر من غيرها من آثار الأزمة الاقتصادية، الموضوع هو مسألة المهاجرين وتحويلاتهم. مع دول أميركا الجنوبية، الأحاديث أكثر سياسية.
نجح أوباما في إبعاد كوبا عن مركز الاستقطاب، بحيث لم تأخذ أكثر من 20 في المئة من المناقشات، ووعد بـ«التفكير بالموضوع»، لكل من طالبه. أوباما متحرّر من الشكليات التي كانت تميّز أسلافه، «لا كبير ولا صغير بيننا»، ولا يتوقف عن العمل حتى خلال وجبات الطعام. يستغل بداية الغداء ليجلس إلى جانب الرئيس الكولومبي، ألفارو أوريبي، حليف جورج بوش الأول، وكان الرجلان قد تلاسنا خلال الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة، ثم يلتفت لمحاورة رئيس هايتي، رينيه بريفال، أفقر دولة في المنطقة، «إنها مسؤوليتنا جميعاً».
في المؤتمر الصحافي الذي عقده في نهاية القمة، والموجه هذه المرة أساساً إلى الرأي العام الأميركي، يميز عدد من الرؤساء الذين لم تتسنّ له فرصة تمييزهم خلال القمة ويلجأ إلى تعابير تمزج بدقة بين موقعه زعيم أقوى دولة في العالم والمسافة التي يريد أن يحافظ عليها مع سياسات صيغت قبل أن يلد «ما يقوي الولايات المتحدة ولا يضعفها هو أن تُعبّر تصرفاتُها عن قيمِها..». بالتأكيد، لن تختفي الخلافات والفوارق بسحر ساحر، ومنهج أوباما سيخضع بعد لامتحان الواقع، لكنه أثبت انفتاحاً يفوق بما لا يقاس إملاءات بوش.
وكلام لولا يصب في هذا الاتجاه، إذ رأى أن القمة «يمكن أن تخلق دينامية جديدة من الأخوة والتعاون». وأوضح أن مناخ الاجتماع سيجعل «من الممكن جداً» حصول تطور في العلاقات مع الولايات المتحدة.


أريد أن أكون صديقك!

قبل جلسة الافتتاح، التقى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بنظيره الفنزويلي، هوغو تشافيز، في الممرات، فبادره بالإسبانية: «كيف حالك؟»، أجابه تشافيز بالإنكليزية: «أريد أن أكون صديقك» قبل أن يُضيف إنه قالها أيضاً لجورج بوش قبل ثماني سنوات. وبعد أقل من نصف ساعة، كان الوفد الفنزويلي يوزع صورة الرئيسين المنشرحين والمبتسمين على المجتمعين. وفي اليوم التالي، قُبيل اجتماع رؤساء أميركا الجنوبية مع أوباما، توجه تشافيز إليه وأهداه نسخة إنكليزية من «شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة»، كتاب اليساري الأوروغواياني، إدواردو غاليانو، عن تاريخ القارة من إبادة الهنود إلى سياسات الولايات المتحدة الإمبريالية. وقد دوّن على الصفحة الأولى: إلى أوباما مع مودتي.
أقرّ أوباما بأنّه فكر للوهلة الأولى بأن تشافيز كان يُهديه أحد كتبه، وكان يفكر مبادلته بالمثل. لفتة لطيفة وذكية من تشافيز بعدما وصف سابقاً أوباما بـ«الجاهل» ونصحه بتعلّم تاريخ المنطقة. مهما يكن، فقد قفزت مبيعات كتاب غاليانو على موقع أمازون بأقل من 24 ساعة من مرتبة الستين ألفاً إلى المرتبة الرابعة عشرة. وعلى جانب الاجتماع، اختلى تشافيز مع هيلاري كلينتون، وفور انتهاء الاجتماع، لم يوفر كلمات الإعجاب بحق أوباما، وبعد أقل من ساعة، عيّن سفيراً جديداً لفنزويلا لدى الولايات المتحدة. وفي نهاية القمة، سأل أحد الصحافيين أوباما إذا كانت المصالحة قد اقتصرت على تشافيز أو شملت أيضاً الرئيس البوليفي إيفو موراليس (الصورة) ورئيس نيكاراغوا، دانييل أورتيغا، فأجاب: «الاجتماعات كانت طيبة مع الجميع، فقط تشافيز هو الأفضل في الوقوف أمام الكاميرا».