صراع النفط محرّكه والدين عباءته انطلقت شرارته بمحاولة دوداييف الانفصال عن موسكوموسكو ــ حبيب فوعاني
عاد قائد سرب الطائرات الاستراتيجية السوفياتية الجنرال الشيشاني جوهر دوداييف من البلطيق إلى الشيشان قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991. عودة كانت مربحة للجميع. استغلها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لمحاربة الزعيم الروسي بوريس يلتسين بالسلاح نفسه الذي حاربه هو به، ومحاولة زعزعة روسيا الاتحادية السوفياتية من الداخل بواسطة المزاج الانفصالي في الشيشان. وكان من مصلحة يلتسين و«الديموقراطيين» الروس الجدد القضاء على النخبة السياسية السوفياتية القديمة في الشيشان بيد هذه الشخصية السياسية الجديدة.
في المقابل، لم تغب عن الذاكرة الشيشانية حرب القوقاز الكبرى مع الروس، التي بدأت في عام 1817 ولم تنته فصولها إلا في العهد السوفياتي من عام 1964. ولم ينس الشيشان إجلاء الزعيم السوفياتي جوزف ستالين لهم عام 1944 عن أرضهم إلى سهوب كازاخستان.
وبدأت كرة الثلج بالتدحرج؛ في 27 تشرين الأول من عام 1991 جرت أول انتخابات رئاسية في الشيشان، وفاز الجنرال دوداييف برئاسة الجمهورية، التي سرعان ما أعلنت استقلالها عن روسيا. وبعدها، في 26 تشرين الثاني من عام 1994، جرت أول محاولة لاقتحام غروزني بتغطية من المعارضة الشيشانية الموالية لموسكو، فباءت بالفشل، لتبدأ الحرب الروسية ـــــ الشيشانية الأولى في نهاية العام نفسه.
وبعد مقتل الجنرال دوداييف في عام 1996، حاولت أجهزة الإعلام الشيشانية إسقاط هالة القداسة عليه، معتبرة إياه شهيداً «سقط في سبيل الإسلام».
ويشير المحللون المستقلون إلى أن سيرة حياة الرجل ذي التفكير العلماني، والمتزوج من روسية، لا تسمح بهذا الاستنتاج. فقد كان ضابطاً سوفياتي التربية وطياراً شديد المراس، شهدت بولائه للدولة السوفياتية مشاركته الفعالة في الحرب ضد مسلمي أفغانستان.
وتروي مريم وحيدوفا «رفيقة كفاح» الجنرال دوداييف، في صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» بتاريخ 6 كانون الأول 2002، أنه عندما جاء ذات مرة لزيارة ضريح أحد الأولياء في منطقة فيدينو الشيشانية، رأى الناس يتظاهرون هناك، فقال لهم: «ما لكم تجتمعون وتتظاهرون في الشوارع!... اذهبوا واجلسوا في بيوتكم وأدّوا صلواتكم اليومية الثلاث!». وعندما قيل له إن عدد الصلوات اليومية خمس، أضاف: «ذلك أفضل، اذهبوا وصلّوا خمس مرات...!».
وقال دوداييف لمجلة «التايم» في آذار عام 1996 إن «روسيا هي التي أجبرتنا على السير في طريق الإسلام، مع أننا لم نكن مستعدين تماماً لتقبّل القيم الإسلامية». لذا، لعلّه من الخطأ إضفاء البعد الديني على النزاع، بل كان النفط أحد أساساته، إذ لمّحت مصادر في القيادة الروسية إلى أن سبب الحرب كان خروج دوداييف عن طاعة قادته العسكريين في موسكو في التسعينيات من القرن الماضي، وعدم رغبته في تقاسم العوائد النفطية معهم. وكانت الشيشان تنتج 90 في المئة من البنزين الفائق الجودة، الذي كان يستخدم في الاتحاد السوفياتي لتزويد الطائرات بالوقود.
ومات دوداييف من دون أن يتخلى عن قبعته الأوروبية، أو أن يتسربل بالعباءة الدينية. ولم يبدأ الخطاب الديني في الشيشان إلا مع تعيين نائبه سليم خان ياندربييف رئيساً بالوكالة للشيشان.
وحين خسر ياندربييف في الانتخابات الرئاسية الشيشانية في عام 1997، سلّم صلاحياته إلى عقيد المدفعية السوفياتية السابق أصلان مَسخادوف، الذي هاجم «الوهابيين» و«العرب الغرباء». ولكونه متردداً، تحولت السلطة الفعلية إلى أيدي «المؤمن الجديد» شامل باساييف.
وعاشت الشيشان منذ عام 1996 في استقلال تام عن روسيا إلى أن قام باساييف والقائد الميداني الأردني «خطّاب» بقيادة هجوم كبير في 2 آب من عام 1999 على قرى جمهورية داغستان الروسية المجاورة، وجرى في النصف الأول من أيلول من العام نفسه تفجير أبنية ومجمعات سكنية في موسكو وفي المدن الروسية الأخرى، اتُّهم بتدبيرها الشيشانيون، فبدأت موسكو في نهاية أيلول من العام نفسه حربها الثانية على الشيشان. ونجحت الأجهزة الأمنية الروسية عام 2002 في دس السم لـ«خطّاب»، وانتهت المعارك الكبرى في الشيشان ذلك العام، وبدأ نشاط المسلحين الشيشانيين بالانحسار منذ ذلك الحين. وفي عام 2005، نجحت موسكو في القضاء على أصلان مسخادوف، وفي شهر تموز 2006 على شامل باساييف.
والجدير بالذكر أن الإسلام بدأ بالانتشار في شمال القوقاز في عهد الخليفة عمر بن الخطاب في الأربعينيات من القرن السابع الميلادي، ولم يجد طريقه إلى جبال الشيشان إلا في القرن الثامن عشر الميلادي. ويجب القول إن الطريقتين الصوفيتين النقشبندية والقادرية هما اللتان انتشرتا في الشيشان لا الإسلام التقليدي. وقد انتشرت النقشبندية بين أهل الجبال التي ينتمي إليها جوهر دوداييف وأصلان مسخادوف وشامل باساييف.