تركيا ــ العدالة والتنمية تطرح نفسها بقوة على طاولة القمة العربية، بعد تظهّر دور أنقرة في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزّة. دور ما عاد بالإمكان تجاهله
محمد سعيد
عندما يحاجج المتحسّرون على تراجع دور العرب في السياسة والقومية والاقتصاد، يقولون أشياء كثيرة أهمها الحث على عدم الابتهال عندما تقوم دول إقليمية كبرى، بإظهار دعمها اللفظي للعرب. يقولون بثقة مطلقة: انتبه لأننا نحن العرب، واقعون اليوم بين فكّين كاسرين لإمبراطوريتين شاء لهما القدر والجغرافيا والجيوبوليتيك والحتمية أن تعودا لاسترجاع بعض المجد: تركيا ــ السلطنة العثمانية، وإيران ــ الثورة والإمبراطورية.
في مقابل هذه السوداوية التي قوبل بها التضامن اللفظي لرئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان مع فلسطينيي غزة، من جانب بعض العرب المشككين في حسن نوايا حكّام أنقرة، يورد شاكرو تركيا «شعباً وقيادة» العشرات من الأسباب التي تجعلهم مطمئنين إلى أنّ تركيا ــ العدالة والتنمية حسمت أمرها لجهة تحكيم ضميرها أمام الإجرام الإسرائيلي المتمادي، وأنّ «عودتها إلى الشرق العربي» لا تحمل أحلاماً استعمارية، بل تشير ببساطة، إلى أن العرب أقرب إليها من الغرب.
بين هذين الرأيين اللذين لا يلتقيان، حقائق كثيرة لا تحتمل التخمين ولا التحليل: تركيا باتت قوة إقليمية كبرى، لا العرب ولا إسرائيل ولا أوروبا ولا الولايات المتحدة، قادرون على تجاهل حاجتهم الحيوية إلى وجودها ودورها.
ويرى خبراء في الشؤون التركية أنّ التوجهات الإقليمية والعالمية للسياسة الخارجية التركية بدأت تشهد تغيراً في أعقاب انتهاء الحرب الباردة على النحو الذي قادها إلى إعادة التوجه نحو المنطقة العربية.
وقد شهدت تركيا منذ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم في عام 2002، تغيّراً ملحوظاً في التوجهات والاستراتيجيات، مفاده الارتكاز على تعدد العلاقات، وعدم حصرها في محور واحد، الأمر الذي منح تركيا مركزاً مهماً في رسم السياسات الإقليمية والدولية.
وكشف مشهد العدوان الإسرائيلي على غزة، عن تفاصيل التوجه التركي نحو الجنوب من دون أن يعني ذلك وقف خط التوجه نحو الغرب. وقد منح التوجه نحو الجنوب، تركيا، فرصة التدخل المباشر على خط إقليمي ساخن يحمل إليها فرصة الدور الفاعل في الساحة.
وقد يتساءل البعض أنه إذا كان الانتساب إلى النادي الأوروبي لا يزال أولوية تركية، فلماذا الاتجاه جنوبا إذاً؟ والجواب المنطقي لدى البعض هو أن تركيا قد شعرت في وقت ما، بأنّ آمالها فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تتبخّر، ولذلك فكرت في العودة إلى منطقة العمق الاستراتيجي الجنوبية، لتتّخذ منها سنداً قوياً لها في مواجهة استعلاء بعض دول الاتحاد الأوروبي.
ويرى البعض أن الانفتاح الشامل يطمئن إلى أن تركيا دولة لا تحمل أجندات خاصة أو خفية نحو منطقة بعينها، بل تعمل وفق مبدأ «كسب ما أمكن من أصدقاء». ويرى المحلل التركي محمد عرفة أنّ أردوغان يسعى إلى استغلال تحركاته الدولية لاستعادة دور بلاده كقوة إسلامية كبرى في المنطقة. وقد أعاد أردوغان بسلوكه أيام مجزرة غزة، الكثير من الكبرياء القومية إلى الأتراك.
وما يؤكد حضور البعد التاريخي بقوة في المشهد الراهن، هو ما يقوله الكاتب التركي إبراهيم أقباب، عن كيف أنّ «الأتراك يعتبرون فلسطين، قضية وطنية بحتة، بالقدر نفسه الذي يعتبرها العرب كذلك».
في المقابل، يرى مراقبون أنّ التحرك التركي الرسمي، جاء حصراً بغرض تحقيق مصالح تركيا الاستراتيجية في المنطقة، بعد تأديتها الدور الكبير في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وموقفها من الملف النووي الإيراني، إذ لا يمكن إغفال حقيقة أن بقاء دور نشط وفعّال لتركيا في المنطقة، هو ورقة مهمة في علاقات تركيا مع أميركا وإسرائيل.
ومثلما كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، فإنّ تدهور العلاقات إبان «الرصاص المصهور»، لم يدفع إلى إضعاف ملموس للعلاقات الودية جداً بينهما. وبدل التصعيد الحاد في مواقف أردوغان، كان يمكنه أن يتخذ على الأقل قراراً بوقف تدريب الطيارين الإسرائيليين في قاعدة قونيا الجوية مثلاً. ثمّ ما معنى أن تقتصر الإدانة التركية للإرهاب الإسرائيلي على تصريحات أردوغان وتظاهرات شعبية، قبل أن يعود وزير الخارجية التركي علي باباجان ليلتقي نظيرته تسيبي ليفني ليعلنا «طي صفحة سوء التفاهم»؟
إذاً، بنظر الكثيرين، لم يكن الدافع من وراء توجه تركيا نحو محيطها العربي ــ الإسلامي، سوى تحقيق المصالح التركية في المنطقة. ومن هذا المنطلق، لم تكن مصادفة أن يشهد العام الماضي عدة خطوات ذات دلالة كبيرة ويأتي في مقدمتها:
1 ــ توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي بين تركيا والعراق، تترك الباب مفتوحاً لمتابعة التفاعلات على الساحة العراقية والكردية وموازنة التأثير الإيراني فيها.
2 ــ توقيع تركيا في أيلول الماضي مع دول مجلس التعاون الخليجي مذكرة تفاهم استراتيجية سياسية ــ دفاعية ــ اقتصادية، قد تمهّد لإدخال دول الخليج العطشى إلى نادي المستفيدين من «خط السلام» لنقل المياه التركية.
3 ــ حضور أردوغان قمة دمشق بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والرئيس السوري بشار الأسد وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، في الثالث من أيلول الماضي.
ثمّ جاءت استضافة تركيا للمحادثات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل لتؤكد عمق العلاقات التركية ــ السورية، واتجاه البلدين للتعاون في مجالات عديدة بشكل أوسع بكثير من أي وقت مضى.
ويؤكد محللون أن الطموحات التركية في المنطقة، لا تقتصر على الدوافع السياسية أو محاذير الأمن الوطني، بل إنّ لدى أنقرة أجندتها الذاتية المتعلقة بالتنمية والاقتصاد والاستقرار والاستثمار في قدراتها وثرواتها ومصادر قوتها.
وجاء ارتفاع أسهم أردوغان في العالم العربي، ليطرح أهمية تأثيره بقوة في المنطقة في مواجهة «الهاجس» الإيراني، بحيث أصبح المطروح هو إمّا القبول بدور راعٍ تركي إسلامي سني معتدل للتسوية في المنطقة، أو راع إيراني شيعي.