دور خفيّ للعسكر... والـ«سي آي إيه»شهيرة سلّوم
بدأ عبد القدير خان، الذي أطلق القضاء الباكستاني سراحه أمس، مسيرته النووية عام 1971 في بلجيكا، حيث كان تلميذاً في علم المعادن، ثم انتقل للعمل في شركة «أف دي أو» التابعة لـ«يورينكو»، المكلّفة مهمة تطوير الوقود النووي. أشعلت فيه الحرب الباكستانية الهندية أو كما يصفها «الهزيمة المذلّة» عام 1971 الرغبة في مساعدة وطنه على امتلاك القنبلة النووية، إلى أن نجح في أيار 1998.
قضيته مليئة بالمفاجآت والتقلبات. في عام 2004 فجّر المفاجأة الكبرى، حين اعترف بنقل أسرار نووية إلى إيران وليبيا وكوريا الشمالية. لكن الرئيس السابق، برويز مشرف، عفا عنه ووضعه قيد الإقامة الجبرية. وأمام هول ما كشفه، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاستخبارات الأميركية الضغط على باكستان لإجراء التحقيق، لكنّها رفضت التحقيقات المباشرة والتلميحات إلى تورط عسكرها بالتسريبات النووية.
بدوره، لبّى خان نداء الوطن، ورفض التحدث مع وكالة الطاقة أو الولايات المتحدة، غير أنه تعِب من الحصار، فأراد الحرّية، وهدّد بتفجير مفاجأة، فأطلقها منذ أقل من عام وهي: سحب الاعترافات التي أدلى بها منذ سنوات. أعقبها نفي على النفي، ومن ثم توجيه أصابع الاتهام إلى الجيش، مدّعياً أنّه أشرف على نقل 2000 شحنة نووية إلى كوريا الشمالية.
تحت مجهر «السي آي إيه»
لطالما تعقّب ظلّ وكالة الاستخبارات المركزية «السي آي إيه» خان منذ بداية مشواره النووي. أدركت الوكالة خطورته، وحاولت إيقافه. يقول مسؤول دنماركي إنّ الوكالة حُذّرت عام 1975 من أنّ خان يسرق خططاً لبناء أجهزة طرد لتخصيب اليورانيوم، حين كان يعمل في شركة «يورينكو».
ويروي الأستاذ في جامعة «هارفارد»، جوزيف ني، الذي خدم في عدّة إدارات أميركية كيف أنّ الاستخبارات اعتقدت أنّ باكستان تحاول صنع قنبلتها بإنتاج البلوتونيوم، فأرسلته إلى فرنسا لإيقاف شحنة تكنولوجية نووية. وقال: «رجعنا إلى واشنطن كي نحتفل بالنصر، لنكتشف أنّ خان استطاع أن يسرق التكنولوجيا من طريق آخر».
وذهب خان إلى هولندا مرّات عديدة كي يحصل على تكنولوجيا نووية، وتقول الاستخبارات إنّها راقبته ومنعت السلطات الهولندية من إلقاء القبض عليه لمعرفة سبيله ومصادره. وتكشف أنّه بادل تكنولوجيته لأجهزة الطرد بالتصميم الصيني للقنبلة.
عندما تسلّم الرئيس جورج بوش الإدارة عام 2001، أطلعه مدير وكالة الاستخبارات آنذاك، جورج تينيت، على خطورة خان، قائلاً إنّه «أخطر من بن لادن»، وروى له كيف تعقّبته الوكالة على مدى سنوات «كنا داخل بيته ومصنعه وغرفه».
مع كل هذا «التعقب»، لم تتمكّن الوكالة من منع باكستان من صنع قنبلتها، ما يثير الشكوك ويدفع إلى طرح تساؤلات عن الثمن الذي دفعته إسلام آباد في مقابل قنبلتها!
بعد اعترافات خان عن نقله الأسرار النووية إلى دول أخرى، انطلق البحث عن تلك الدول. ويقول المحققون إنّ خان زار 18 بلداً قبل توقيفه، من ضمنها السعودية ومصر وسوريا وأفغانستان والجزائر. «زيارات عمل»، إمّا من أجل شراء مادة اليورانيوم الخام، وإما لبيع مواد ذرّية.
زيارة أفغانستان أثارت شكوكاً حول احتمال وصول «القاعدة» أو «طالبان» إلى الأسرار النووية. لم يُثبت مرّة أنّ «القاعدة» وصل إليها، لكنّ هذا لا يمنع إثارة الشكوك نظراً لصلاته التاريخية بالجيش الباكستاني.
ويدّعي المحقّقون أنّهم وجدوا إحدى الشركات المرتبطة بشبكة خان العالمية، ووجدوا آثاراً لمواد إشعاعية وتسجيلات هاتفية لاتصالات مع السعودية، وتعقّبوا عمليات الشبكة في ماليزيا وأوروبا والشرق الأوسط وجنوب أفريقيا، حيث كشفوا معدّات متعلّقة بتخصيب اليورانيوم.
مرّة جديدة، النقص في المعلومات عن شبكة خان أثار شكوكاً حول تورّط العسكر الباكستاني في السوق السوداء، وتساؤلات عن هوية الدول أو المجموعات التي حصلت على «المجموعة الابتدائية النووية، ابتداءً من تصاميم أجهزة الطرد، إلى وقود اليورانيوم الخام، فخرائط تصاميم القنبلة». ويشبّه أحد مفتشي وكالة الطاقة السوق النووية السوداء بالقاعدة «أينما تقطع رأساً، فرؤوس جديدة تنمو».
عام 2005، اكتشفت وكالة الطاقة شبكة خان العالمية، واستطاعت أن تدخل إلى جهازه الكومبيوتر، لتحصل على أطنان من المواد والمعدّات والأوامر والأسماء والأماكن، وحتى رسالة حب قديمة «وأمور تتعلّق بصفقات مع إيران وكيف يمكن تجنّب وكالة الاستخبارات». والوثيقة الأهم، التي تدّعي «سي آي إيه» الحصول عليها، هي «تصميم لقنبلة نووية» مطوّرة. «السي آي إيه» ووكالة الطاقة قالتا إنّهما لا تشكّان للحظة بأنّ خان هو مصدر تصميم «القنبلة المرمّزة».
وفي آخر حلقة من مسلسل شبكة خان، صدور تقرير للمفتش السابق لوكالة الطاقة، دايفيد ألبرايت، يدّعي فيه أنّ خان على رأس شبكة دولية طورت «سلاحاً نووياً مضغوطاً» ونقلت بضائعها إلى العديد من الدول والمجموعات «المارقة».
الادّعاء قديم، لكنّ الجديد فيه هو ما تمتلكه هذه الشبكة من «بيانات رسومية لجهاز تفجير نووي مضغوط يمكن تركيبه على نوع من الصواريخ الباليستية»، وهذه التصاميم أكثر تطوراً من القديمة التي تدّعي واشنطن أنها نُقلت إلى ليبيا أو إيران أو كوريا الشمالية، وموضوعة على أجهزة كومبيوتر الوسطاء حيث يمكن بيعها بسهولة للعملاء.


عبد القدير خان إلى الحريّة(أ ف ب)