باريس ــ بسّام الطيارةصحيح أنّ أسوأ أزمة ماليّة تعرفها الرأسمالية، هي اقتصادية الطابع أساساً، إلا أنّها تشكّل مناسبة لعرض القوى الاقتصادية عضلاتها سياسياً، وهو ما كان مؤتمر برلين مسرحاً له. فقد تحوّلت مجموعة «الخمس»، لأسباب سياسية، إلى مجموعة «الثماني». وقبل أن تنطلق مجموعة الدول العشرين لمعالجة الأزمة المالية العالمية، فضّل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، العمل ضمن مجموعة «يوروغروب»، التي تضم الدول الـ 15، التي تعتمد العملة الأوروبية الموحّدة.
لكن سرعان ما ظهرت صعوبة العمل ضمن هذه المجموعة غير المتجانسة من حيث المستوى الاقتصادي. وعندها عمدت باريس إلى دعوة ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا إلى الاجتماع، ما أثار بعض الحساسيات، دُعيَت على أثرها إسبانيا وهولندا وكل من رئيس المصرف الأوروبي، جان كلود تريشيه، وجان كلود جونكل، ممثلاً مجموعة «اليوروغروب»، ورئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروزو.
ولضرورة احترام الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، دُعيَت تشيكيا إلى «لقاء زعماء الاقتصادات الأوروبية الكبرى»، الذي التأم في برلين أول من أمس للتوصل إلى موقف أوروبي مشترك، استعداداً لاجتماع مجموعة العشرين في الثاني من نيسان المقبل.
إلّا أنّه رغم صبغ البيان النهائي بطابع اقتصادي، فإن جميع المراقبين يتفقون على أن «القرارات هي أولاً وأخيراً سياسية»، تمسّ إيديولوجية الفلسفة السياسية الغربية، ونمط إدارة المجتمع للسنوات المقبلة. ويقول هؤلاء إنّ «التكتم على الصبغة السياسية» في أقوال جميع المشاركين في الاجتماع، وفي تصريحات الوزراء المختصّين، يعود إلى أنهم «ابتلعوا قبعاتهم الإيديولوجية»، ولأن الأزمة المالية تدفعهم إلى الأخذ بوصفات رفضوها خلال سيرتهم السياسية السابقة بحجج إيديولوجية بحتة.
ومن هنا، فإن الاتفاق على ضرورة أن تخضع كل الأسواق لـ«إشراف مباشر من الحكومات»، هو على نقيض ما كان ينطق به كل من حضر اجتماع برلين، بدءاً بساركوزي، مروراً بكل زعماء اليمين واليسار الليبرالي الأوروبي، وصولاً إلى رئيس الحكومة البريطانية غوردن براون.
كذلك فإن الإشارة إلى ضرورة «ضبط لوائح المنتجات والشركاء الماليين»، ووضع ضوابط ملائمة على صناديق التحوّط، وغيرها من صناديق رؤوس الأموال الخاصة، على اعتبار أنها «يمكن أن تشكّل تهديداً منهجياً» للاقتصاد العالمي، هو بحق «ثورة إيديولوجية» لا يودّ الزعماء الأوروبيون التشديد عليها إعلامياً.
وبعدما كانت الدول الأنكلوساكسونية، وأخرى كهولندا وتشيكيا وبولونيا، تعارض بشدة أي زيادة في دور صندوق النقد الدولي، وإعطاءه دوراً فاعلاً في تأطير خطط التنمية ومراقبة النظام المالي، فقد اقترح القادة إضافة ٢٥٠ مليار دولار على تمويل الصندوق، كي يستطيع العمل بـ«فعالية أكبر».
والمفارقة الكبرى هي أن بريطانيا كانت المعارض الأول سابقاً لرفع هذا المبلغ، وقد اقترحت خلال القمة المذكورة زيادته إلى ٥٠٠ مليون دولار، رغم أنّ البعض أراد قراءة هذا البند على أنه يهدف إلى دعم اقتصادات أوروبا الشرقية والتخفيف عن كاهل المصارف الغربية المرهقة مالياً.
وفي الاجتماع الألماني، أشار ساركوزي إلى أن التحضير لقمة «العشرين»، في نيسان، يسير سيراً جيداً، بما أنه سيكون على المجتمعين تحمّل «مسؤولية تاريخية»، مشدّداً على ضرورة الوصول إلى قرارات ملموسة قبل هذا التاريخ.
وقد رأى البعض في هذه الملاحظة إشارة إلى وجود عقبات لا تزال تعترض التوافق الأوروبي ـــــ الأميركي على نوعية الحلول؛ فبعض المصادر تكشف أن واشنطن تصرّ على ضرورة إنقاذ المجموعات الصناعية والمالية المتعثرة، قبل النظر إلى المدى البعيد، بينما يتمسّك بعض الأوروبيين، وفي مقدّمهم ألمانيا وفرنسا، بمعالجات سياسية بعيدة المدى.
ويبدو أن ساركوزي قد «استقوى» بالدعم الألماني، إذ لفتت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى أنّ الأوروبيين «متفقون على أن نظاماً مالياً منظّماً بطريقة أفضل، يجب أن ينبثق عن حطام أسوأ أزمة مالية يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية».
وإن تحوّل الموقف البريطاني، الذي قبل بضبط صناديق التحوط، أعطى زخماً للموقف الأوروبي في مواجهة الولايات المتحدة، وخصوصاً أن عدداً من دول مجموعة العشرين، مثل البرازيل والهند، يسوّقون في هذا الاتجاه.
وحدها الإشارة إلى أنّ أوروبا «ترغب بإجراءات تحافظ على التنافسية»، قُدِّمَت على شكل «طعم» للإدارة الأميركية الجديدة، العاجزة إيديولوجياً عن «بلع مبدأ تنافس الأسواق والسلع»، رغم أن سياستها الاقتصادية كانت وراء هذه الأزمة المالية.