سيكون عام 2009، عام التحوّلات الاستراتيجية بامتياز. قناعة تسود عقول معظم المراقبين لتطورات التحالفات الدولية وتداعيات الأزمة المالية، التي سيكون لمنطقة الخليج العربي حصّة كبرى في حصد نتائجها سياسياً
نيويورك ــ نزار عبود
ينتظر الجميع تبلور أفكار الإدارة الأميركية الجديدة التي تتسلّم مقاليد السلطة في غضون أيام وسياساتها. فانهيار النظام الرأسمالي تزامن مع انهيار سياسة القطب الواحد اقتصادياً وعسكرياً. وهنا يُطرَح السؤال عن هوية الدولة أو الدول المؤهّلة لأن تقدّم نموذجاً ريادياً يملأ الفراغ الذي يولّده ضعف الولايات المتحدة وحلفها الأطلسي.
فهل بعد تدهور سعر برميل النفط، إلى خُمس ما كان عليه في أوج صعوده في الصيف الماضي، سيتوقف الصراع للسيطرة على منابع الطاقة في الشرق الأوسط، ويفقد الخليج أهميته الاستراتيجية؟
الجواب قد يأتي من الشرق، حيث إن الصين، رغم أنها تأثرت كثيراً بالأزمة الاقتصادية، فإنها لا تزال تتربع على عرش الدول الصناعية. وعلى صعيد النفوذ الدولي، من المتوقع أن تعزز بكين من دورها في القارة الأفريقية وفي الشرق الأوسط، نظراً لحاجاتها المزمنة إلى الطاقة والمواد الأولية من جهة، وإلى التعويض عن تراجع الطاقة الاستيعابية لأسواقها الاستهلاكية الغربية من جهة أخرى.
أما روسيا، فإنها عانت في الأشهر الأخيرة من فرار عشرات المليارات من الدولارات إلى الخارج، وكذلك من تدهور قيمة الروبل بنحو 18 في المئة. الأمر الذي أفقدها زمام المبادرة، وجعلها تحتاج إلى حلفاء يعوضون عن نقاط ضعفها الاستراتيجية. ومع ذلك، يأتي موقعها الاستراتيجي بين الشرق الصيني والغرب الأوروبي، بين الشمال القطبي المتجمد والجنوب الخليجي الملتهب، فضلاً عن ثرواتها الكثيرة ووزنها النووي المخيف، لتعوّض مجتمعة عن أي نقص. وروسيا، بعلاقاتها الوطيدة مع إيران، تتمتع بموطئ قدم راسخ في الخليج، وآخر في موانئ سوريا، وهي تتوسع في أميركا اللاتينية وأميركا الجنوبية مستفيدة من النقمة على الولايات المتحدة هناك.
ووسط هذه المعمعة الاستراتيجية، تبقى منطقة الخليج العربي بالغة الأهمية بالنسبة لكل القوى الدولية، القديمة منها والحديثة. فسعر النفط المتدني من شأنه عرقلة مشاريع الطاقة البديلة التي لم يقطع العالم شوطاً طويلاً في الاستثمار فيها. وهذا يعني أن عصر النفط والغاز سيطول عقوداً، وعصر الفطام النفطي سيتأخر عقوداً أيضاً.
فضلاً عن أنّ الكساد الاقتصادي في الخليج قد أدى فعلياً إلى عودة عشرات آلاف الوافدين من شبه القارة الهندية، حيث كانوا يتولون الكثير من الوظائف الفنية، فضلاً عن توفير اليد العاملة الرخيصة. كما أن عشرات آلاف الأوروبيين الذين يتمتعون بدخول مرتفعة في المنطقة، والذين اقترضوا من مصارفها واستثمروا في مشاريعها العقارية الفاخرة، شاهدوا استثماراتهم تهوي من أعلى الأبراج لتتبدد في المياه المالحة. بالتالي، فلن يكون لدى هؤلاء أيضاً ما يجعلهم يبقون في المنطقة.
وإزاء الخسائر الكبيرة، والنزوح الجماعي للأدمغة والخبرات والقوى العاملة والرساميل من إمارات الخليج، تستعيد المنطقة صبغتها السابقة، مخزوناً استراتيجياً أساسياً للطاقة، ومصدراً لفائض رأس المال، بدل أن تكون بيئة للتنمية ولجذب المشاريع والاستثمارات.
ولا غرابة في أن تشعر دول، كالسعودية والإمارات والبحرين، بأنها معرّضة للمساومة السياسية بين الأقطاب الجدد. فقد أعرب الخليجيون عن خشيتهم من زحف الجيش الروسي على جورجيا في الصيف الماضي، متخوّفين من خطوات لاحقة قد تكون منسّقة مع إيران في منطقتهم. كما تنظر تلك الدول، ومعها إسرائيل، إلى المساعدة الروسية لمحطة بوشهر النووية الإيرانية، فضلاً عن تزويد إيران بالتقنيات العسكرية التقليدية، تهديداً مباشراً لأمنها وإضعافاً لحليفها الاستراتيجي، منظمة حلف شمال الأطلسي، من بوابة «مبادرة اسطنبول للتعاون».
وتخشى دول الخليج، إذا تجاوزت طهران عتبة التقنيات النووية التقليدية، أن تصير قطباً كبيراً في المنطقة، قادراً على إملاء سياسته حتى من دون تحريك جيوشه.
لذلك، تحرّكت الدبلوماسية السعودية والإماراتية على أكثر من محور لدى موسكو، مطالبة إياها بوقف تزويد إيران بنظام الصواريخ المضادة من طراز «أس. 300» الذي ينتظر أن يُنشر في أوائل العام الجديد. وتحاول تلك الدول، تعزيز علاقاتها التجارية مع موسكو في إطار عملية الترغيب، وسط قلق من أن التحالف الغربي، الذي يشمل إسرائيل، لن يكون كافياً لمواجهة قوة الحلف الروسي ــــ الإيراني.
كما يبدو عدد كبير من المراقبين واثقاً من أن معظم دول الخليج تخشى أن تؤدّي موسكو ودمشق، دوراً في الحوار بين واشنطن وطهران، من أجل الخروج بتسوية إقليمية على حسابها. وقد يكون هذا هو الخيار الوحيد المتاح أمام الرئيس باراك أوباما، الذي ورث عجزاً في الميزانية بلغ تريليون دولار، وينتظر أن يرتفع في العام المقبل، إلى 1.3 تريليون، وهو ما سيسمح له فقط بالانكفاء لترقيع الجبهة الداخلية المتهالكة.