من لا يفهم كيف يحصل أن يكون مسؤول سياسي ما، أكثر من استثنائي على الصعيد الدبلوماسي والدولي، وفي الوقت نفسه، يسجّل عاماً سيئاً في داخل بلاده، فعليه أن يراجع تطوّرات عام 2008 بالنسبة إلى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان
أرنست خوري
للحديث عن تطورات تركيا عام 2008، ومحاولة تحديد العناوين العريضة المتوقّع أن تطبع عامها الجاري، لا بدّ أن يكون اسم رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان في قلب أيّ النقاش.
هكذا، أمكن القول إنّ حركة تركيا الأكثر من استثنائية التي وضعتها في مصاف «الدول (شبه) العظمى»، كانت نتيجة حركة أردوغان الاستثنائية. والإخفاقات الداخلية التي طبعت عام تركيا، ليست سوى إخفاقات الرجل نفسه.
الحدث الكبير كان شبه يومي في البلاد: حروب عسكرية، وساطات سلمية، محاكمات تطيح حكّام الأمس، دعاوى لحظر الحزب الحاكم، فضائح فساد تطال رأس السلطة، قمم ولقاءات دبلوماسية لا تنتهي، مصالحات تاريخية، رياح شرقية تستعيد زمن الحكم العثماني، تظاهرات واشتباكات مستمرة، طوائف وقوميات لا ترضى بسوء معاملة، وانقسامات كبيرة في صفوف حزب أردوغان.
صحيح أن شعبية «العدالة والتنمية» تلقّت ضربات، لكنها لم تكن قاضية؛ فالأزمة المالية العالمية فاقمت مصيبةً اقتصاديةً تركية، حُمّلت الحكومة مسؤوليتها. والمعارضة العلمانية أثبتت قوتها، وإن باتت مقيّدة. ارتدت تركيا الحجاب الإسلامي لأيام فقط، قبل أن تُبطل المحكمة الدستورية قانون السماح بارتداء هذا «الرمز السياسي». ووجّهت المحكمة «إنذاراً» شديد اللهجة إلى الحزب الحاكم و71 من قادته، لكنها لم تحظره على خلفيّة «تكوينه بؤرة تهدّد القيم العلمانية».
وهنا يطيب للمعلقين اعتبار أن هذا الحكم القضائي «الناعم»، كرّس واقعاً جديداً في البلاد، ووضع «خطوطاً حمراً» جديدة، لكن هذه المرة في وجه العلمانيين المتشددين. فهؤلاء استوعبوا أنهم باتوا عاجزين عن مواصلة لعبتهم في إقصاء من يريدون بأدواتهم الدستورية حيناً، والانقلابية حيناً آخر. فقد طويت صفحة عصابات «إرغينيكون» التي كُسر حاجزها النفسي، وبات جنرالاتها ورموزها (حكام الأمس) أمام المحكمة بعدما نفض الجميع أيديهم منها.
ثمّ جاءت الانقسامات الحزبية داخل «العدالة والتنمية». ففي سنة واحدة، خسر الرئيس عبد الله غول وأردوغان، 5 من أبرز أسماء «مهندسي» حزبهما.
وكأن كل ذلك ليس كافياً بالنسبة إلى أردوغان وحكومته وحزبه، إذ قدّم الرجل للمعارضة سلوكاً تجيد الأخيرة توظيفه لتحطيمه سياسياً، فشنّ الحملات الشعواء على وسائل إعلامها، وظهر بحالات عصبية غريبة عن أطواره، ودخل في سجال متعلق بتورّطه في فساد مالي. وكان لملف الأكراد وجهان: داخلي وخارجي. ففيما كانت العلاقة مع أكراد الداخل وحزب العمال الكردستاني، تشهد واحدة من أسوأ السنوات (حربان في عام واحد، رغم أن العام انتهى بافتتاح التلفزيون الحكومي الذي يبث باللغات الكردية والفارسية والعربية)، كانت أنقرة تكسر القطيعة التاريخية مع أكراد العراق، واعترفت بإقليمهم، رغم أن زيارة غول إلى أربيل لم تحصل.
يبقى أن أهم حدث داخلي متوقّع في العام الجاري، سيكون الانتخابات المحلية في آذار المقبل، التي ستدور أم معاركها في الأناضول الكردي، الذي قد يقضي على مستقبل أردوغان السياسي، وخصوصاً إذا التزم الرجل تعهّده الاستقالة (هو وحكومته) من الحكم، إذا حلّ حزبه ثانياً.
دبلوماسياً، كان عام 2008، عام بناء «تركيا الجديدة» بامتياز، تركيا «الرقم الصعب»، الوسيط الإقليمي والدولي، والباحث من دون ملل عن وضعية تناسب حجمه في التاريخ والمستقبل والجغرافيا والعسكر والديموغرافيا.
وقد أذهل أردوغان وحكومته العالم في توظيف كل حدث، حتى الحروب والعداوات، إلى رصيد تركي. تمكّنت أنقرة من إطلاق مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، وعرضت خدماتها بين الغرب وإيران. كذلك نالت العضوية غير الدائمة لعامين في مجلس الأمن الدولي، واستضافت قمة تركية ــ أفريقية، وأخرى خليجية ــ تركية، وقمتان أفغانيّة ــ باكستانية، فيما سجّل حكامها رقماً قياسياً في سجل البروتوكول الدبلوماسي، في الزيارات والاستقبالات.
ووصلت المهارة الدبلوماسية التركية إلى حدّ تجيير حرب القوقاز التي اندلعت في الصيف الماضي على حدودها، لمصلحتها، عندما تقدمت بمبادرة «منتدى التعاون والأمن في القوقاز». منتدى ينتظر أن يكون العام الجاري موعد إرساء أسسه التنظيمية. ولم يكن ما فعلته تركيا أرمنياً، أقل قيمة من إنجازاتها الدبلوماسية الأخرى، حين استغلت «دبلوماسية كرة القدم» لتضع زيارة غول إلى يرفان «خريطة طريق» لإنهاء العداء المستشري بين البلدين، على أن يكون 2009، حاسماً في التطبيع الكامل، وخصوصاً إذا اتُّفق على تسوية لـ«الإبادة الأرمنية». وهو عام سيكون حاسماً أيضاً في ملف توحيد جزيرة قبرص. المفارقة الكبرى، هي أن الإنجازات الدبلوماسية التركية، قابلها عقم كبير في ملف العضوية في الاتحاد الأوروبي. فمن أصل 35 فصلاً من المفاوضات، لم يُفتَح إلا 4 منها، في ظل رئاسة فرنسية للاتحاد، تريد كل شيء إلا أن ترى تركيا أوروبية يوماً ما.
تدرك تركيا أنها سلكت طريق القوة العظمى. لكنها تعرف أيضاً أن الأدوات لا تزال تنقصها. وقد تكون لهذا السبب، بدأت تسرّع من خطواتها النووية «السلمية» التي يبدو أنّ روسيا ستكون مخصّبها الأساسي.
تبدأ تركيا عامها بعين على سياسة الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما «المغرم بالأرمن»، وأخرى على أزمات الشرق الأوسط التي، كلما استعرت، فسحت لها المجال لتكون اللاعب الأقوى في ظل الانقسام العربي الكبير... وما عروض وساطة أردوغان لإنهاء المجزرة الإسرائيلية في غزة، إلا مختبر صغير لتركيا العظمى.