تطأ ألمانيا عتبة العام الجديد وهي مطمئنة إلى أن العالم سيطلبها للقيام بواجبها كدولة كاملة العضوية في مجلس الأمن الدولي. وحدها الأحداث والوقائع تؤكد أحجام الدول ومساحة سياستها على البسيطة
برلين ــ غسان أبو حمد
خلال عام واحد، وعلى الرغم من الأعاصير التي ضربت الاقتصاد العالمي وعصفت بسياسة السلم والسلام، تمكّنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من تخطّي سوء الإدارة والتنظيم في عالم المال والأعمال، متحدّية المعالجة الأوروبية التقليدية والمشبوهة، المرتكزة على قاعدة «خفض الضرائب». ورفعت ألمانيا مستقلة، مستوى الضريبة، غير مبالية بصراخ حلفائها، تحت شعار التحولات الجذرية في هذا القطاع.
على الصعيد الداخلي، بلغت الوحدة الألمانية سنّ الرشد. لم يبق من «جدار برلين» سوى قطعة رمزية سياحية في وسط العاصمة، مزدانة بالشعارات والألوان في شطرها الغربي، لتؤكد «فوضوية الحرية»، وكاملة البياض لمّاعة في شطرها الشرقي لتؤكد «أحادية النظام والفكر».
باختصار، تأكدت في عام 2008 وحدة «الشعبين» الشرقي والغربي، وبات من الصعب التمييز بين سكان «جمهورية ألمانيا الديموقراطية» (الشرقية) و«جمهورية ألمانيا الاتحادية» (الغربية). ها هو الجيل الألماني الشاب يقف اليوم أمام ملصق حزب «الديموقراطية الاشتراكية» اليساري الجديد، ويصعب عليه التمييز بين السياسي أوسكار لافونتين (الرئيس السابق للحزب الاشتراكي الديموقراطي في ألمانيا الغربية) والسياسي غريغور غيزي (الرئيس السابق للحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية)، وهما يتعانقان ليشكّلا معاً حزب «الديموقراطية الاشتراكية».
لا بل ها هي قيادات جمهورية «الغرب» بكاملها، تدلي قبل حوالى شهرين بأصواتها في صندوق أنجيلا ميركل، من دون السؤال عن تاريخها كطالبة «ألمانية شرقية» ناجحة في مادة الفيزياء وعن عملها كنادلة تخدم الزبائن في مقهى في مدينة «لايبزغ» جنوب ألمانيا الشرقية.ولم يدع الشعب الألماني دخول وحدته سنّ الرشد (18 عاماً) تمرّ بصمت، بل اختارت القيادات السياسية في التاسع من شهر تشرين الأول الماضي مدينة هامبورغ مكاناً للاحتفال المركزي، ودعت قيادات جميع الأحزاب السياسية، على اختلاف توجّهاتها العقائدية، مواطني البلاد إلى الاحتفال في ساحات مدنهم وقراهم، تحت عنوان «ألمانيا: وحدة الحضارات».
لكن بعيداً عن البيانات الرسمية، يبرز النفس الانتقامي لدى بعض القيادات اليمينية المتطرفة. هذا ما كشفه استطلاع رأي أجراه معهد «فورسا» لحساب «الجامعة الحرة» في برلين، العام الماضي، لافتاً إلى أنّ واحداً من بين كل تسعة من سكان العاصمة الألمانية يحبذون عودة جدار برلين، وذلك بعد ولادة جيل ألماني جديد لم يتعرّف إلى مساوئه ولم يلمسه.
وفي تعداد التجارب السياسية على الصعيد الداخلي، تبرز تجربة وزير الداخلية فولفغانغ شويبله، الذي يعتبر مطارداً مُطوّقاً للإرهاب المحلّي والخارجي، وذلك عبر قانون اعتماد وسائل التكنولوجيا في مكافحة الإرهاب. ويستند «قانون شويبله» إلى اعتماد أساليب التجسّس على المواطنين من خلال التسلّل إلى البريد الإلكتروني وتحليل الرسائل، إلى جانب نصب العدسات السرية للتصوير والتنصّت، وزرع كل ما من شأنه توفير الاستقرار والأمن في البلاد.
وأسهمت وزارة الداخلية الألمانية في الأشهر الماضية، وهي في عهدة وزيرها الحديدي شويبله، في صياغة قوانين منح الجنسية الألمانية للأجانب في أواسط شهر حزيران الماضي، بعد إخضاعهم لـ«امتحانات» في اللغة الألمانية وتركيبة البلاد السياسية، وصولاً إلى قوانين السير والتنظيم الاجتماعي.
وفي معالجة الأزمة الاقتصادية ـــــ المالية العالمية، تستقلّ ألمانيا ببرنامجها القاسي، معتمدة على صبر المواطن وقدرته على التضحية. إلا أنّ الشركات الألمانية قد تضطر إلى التفكير في الاستغناء عن عدد كبير من العمال هذا العام، وذلك على الرغم من الضمانات التي قدمتها الشركات الكبرى بشأن الوظائف. والمعروف في هذا المجال أن غرفة الصناعة الألمانية كشفت أن فرض عقوبات على طهران سوف يؤدي إلى بطالة تقدر بعشرة آلاف عامل، وإلى توقّف حركة الإنتاج وتراجعها.
هكذا، حاولت المستشارة تطويق «التوقعات السيّئة» التي يحملها العام الجديد، فأطلقت خطة إنعاش اقتصادية تشمل شقَّي ألمانيا الغربي والشرقي على حد سواء، ويجري توزيعها بنظام الحصص على كل الولايات الألمانية. وأعلنت المستشارة عدم استعدادها لممارسة سياسة «وخز الإبر»، ورفضت بالتالي خفض الضرائب، مؤكدة أن كلّ حلّ للأزمة المالية العالمية لا يرتكز على سياسة الاعتماد على الذات هو حلّ باطل وعاطل.