أكمل الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز عشر سنوات على انتخابه رئيساً لفنزويلا. سنوات كانت كفيلة بتحوله إلى زعيم محلّي وعالمي، معتمداً على النفط، الذي كان ولا يزال ركيزة فنزويلا منذ عشرينيات القرن الماضي. فما الذي يمكن أن يتغيّر اليوم مع انهيار سعر النفط؟ وأيّ تقويم موضوعي لعقد مع تشافيز بين خطبه وأعماله، ولا سيما أن الرجل وأخصامه يعشقون تبادل الهجمات
لميا والالو ــ بول الأشقر
هوغو تشافيز لا يهدأ. يخوض معارك عديدة في وقت واحد، البعض منها مفروضة عليه والباقي هو الذي يقرر التدخل بها أو إطلاقها. نموذج حديث هو قراره إعادة طرح رفع العوائق أمام ترشحه لولاية ثالثة، الذي سيكون موضوع استفتاء في نهاية شباط. اقتراح سبق أن عرضه تشافيز خلال عام 2007، من ضمن ورشة تعديلات دستورية، وقطف منه خسارته اليتيمة في صناديق الاقتراع خلال عقد.
في علم السياسة، هناك حقبة للإقدام وحقبة للمراكمة. كان يستطيع مثلاً تشافيز أن يفعل كما فعل رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، أن يحضّر خلفه، أن يكون عرّابه خلال ولاية، ثم يعود ويحكم 12 سنة إضافية بعد أن تمر ولاية الوكيل. بوتين يتفّهم هذا المنطق ويعمل به، أما تشافيز فلا. هو يتقن الإقدام ـــ ولو كان خطيراً ـــ لا المراكمة، لأنه لا يريد السلطة من أجل «السلطة» بل للقيام بـ«الثورة». عشية الاستفتاء الذي خسره، سأله صحافي بريطاني عن سبب إصراره على الاستمرار في السلطة، أجابه تشافيز ضاحكاً: «وهل نوقف بيكاسو عن العمل وهو لم ينته بعد من رسم غيرنيكا؟».
يبدأ تشافيز رسم هذه اللوحة: الثورة عام 1992 بعد انقلاب عسكري فاشل. من على شاشة التلفاز، يدعو شركاءه إلى إلقاء السلاح. يتحمل مسؤولية ما حدث مرفوع الرأس ويختم أقصر خطبه قائلاً : «لم يكن ممكناً تحقيق أهدافنا»، ثم يضيف «مؤقتاً».
عام 1989، انتخبت فنزويلا أندريس كارلوس بيريس، ابنها اليساري المدلل ورئيس «أحلام السبعينيات»، تحديداً لتستعيد مسار الحلم الذي تحطم مع انهيار سعر النفط. وفي الشهر الثاني من ولايته الجديدة، انتفضت كاراكاس الفقيرة على خطة بيريس الاقتصادية، فكانت الحصيلة 300 قتيل رسمياً والأرجح 3000. بعد سنة، أقيل بيريس لتورطه بعمليات فساد، فيما كان تشافيز مسجوناً.
بعده انتخب اليميني رافائيل كالديرا، الذي ضمّن برنامجه العفو عن تشافيز. في انتخابات عام 1998، وبعد استنفاد رئيسين سابقين من حزبي السلطة والمعارضة الثابتين منذ عام 1958، لم تجد النيو ـــ ليبرالية المتأزمة أحداً لتخاصم به هوغو تشافيز. فمع كلمة «مؤقتاً»، بدأت قصة غرام مستمرة حتى اليوم بين تشافيز وأكثرية الشعب الفنزويلي الفقير، توازيها قصة حقد مع أقلية ليست قليلة.
مع تشافيز أو بدونه، النفط يحكم فنزويلا. قصّة الدولة تُسرد بواسطة سعر النفط، الذي يمثل 95 في المئة من الصادرات وأكثر من نصف موارد الدولة وثلث الناتج القومي. لفنزويلا اليوم احتياط نفطي بحجم احتياط الكويت، وقد يتضاعف أو أكثر بعد تثبيت الموجود في دلتا نهر الأورينوك. تمتّع تشافيز بسعر النفط خلال النصف الأول من عقد حكمه، ثابت ثم متصاعد في الجزء الثاني منه حتى بداية الانهيار خلال الأشهر القليلة الماضية.
ميزة أداء تشافيز الأساسية أنه ـــ بعد دفع بيروقراطية الدولة ـــ كرّس قسماً كبيراً من الفائض النفطي (المرتبط به مباشرة من دون الكثير من الشفافية) لما يسميه «الاستثمارات الاجتماعية». وبدءاً من عام 2003، ارتفعت الاستثمارات ارتفاعاً مضطرداً تحت راية «الميسيونيس»، أي الإرسالات، وهي كناية عن مشاريع اجتماعية قائمة داخل الأحياء الفقيرة، أشهرها «داخل الحي»، وهو مشروع صحة عامة يعمل في الآلاف من مراكزه نحو 20000 طبيب كوبي (وسيلة لدفع النفط الذي تؤمنه يومياً فنزويلا لكوبا). وهناك «ميسيونيس» متخصصة بثلاثين موضوعاً تقريباً من التعليم إلى الأسواق الشعبية ذات الأسعار المدعومة.
يعترف له يودور بيتكوف، الشيوعي السابق وأحد ألدّ منتقديه، أنه «أخرج مسألة الفقر من العتمة ووضعها تحت الأضواء، ولا مجال لأحد بعد اليوم أن يتجاهلها». النتائج لا تتحمل الشك: خلال عقد، تراجعت نسبة الفنزويليين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 43.9 في المئة إلى 28.5 في المئة، وتحت خط الفقر المدقع من 17 في المئة إلى 8 في المئة.
الباقي في أداء تشافيز أكثر رمادية: الاقتصاد حيث يستسهل اللجوء إلى التأميم، التضخم القياسي، والفساد الذي ولّد ما يسمى «البولي ـــ برجوازية»، أي البرجوازية البوليفارية. كما تضاعفت خلال عقد نسبة الجرائم، وتخطت حتى نسبة كولومبيا التي تعيش حالة حرب. هذه هي المعطيات التي يجب متابعتها الآن مع شحّ الموارد النفطية لحقبة تقدّر من سنة إلى سنتين.
هوغو تشافيز ليس وليد الديموقراطية الليبرالية. دستوره البوليفاري، الذي أقرّ عام 1999 هو مزيج منها ومما يسمّيه «ديموقراطية تشاركية تواجهية». التعايش بين النمطين يتطلب من تشافيز باستمرار شعبية عالية يؤمنها بواسطة الاستقطاب في وجه أخصام محليين أو دوليين، وأيضاً بالتواصل المباشر مع قاعدته. على سبيل المثال في عام 2007، أسس عشرات آلاف «لجان أحياء»، لتكون سلطة شعبية جديدة على اتصال مباشر به.
أداة أخرى للتواصل هي لسانه الذي لا يتعب. فقط عام 2008 استهلك 124 ساعة في خطابات رسمية، من دون حسبان برامجه الخاصة مثل «ألو بريزيدنتي». تشافيز محادث من الطراز الأول، يتقن فنون التواصل، قادر على مسامرة المستمعين ساعات في مهرجان أو أمام التلفاز، وهو يخطب ويشرح ويفاجئ ويشتم ويمزح ويغني ويقرأ شعراً. وكل ذلك في الجلسة نفسها.
هذه الكاريزما، الإيجابية أو السلبية حسب المستمع، تجعل منه بحسب مدير شركة استطلاع «داتا أناليزيس»، لويس فيسنتي ليون، «الموالاة والمعارضة معاً، لأن أقصى طموح المعارض هو أن يختاره تشافيز خصماً، أن يقرر مهاجمته لتزداد شعبيته».
تشافيز يلاحق حلماً، ولكنه في الواقع أقدر في الكلام من الفعل، في استنباط المشاريع من متابعتها. هو شخصاني في أولوياته، يصعب معه العمل الجماعي المتساوي والنقدي، ولذلك خسر الكثير الكثير من معاونيه طوال هذا العقد. فعام 2007 قرر دمج كل مناصريه في «الحزب الاشتراكي الموحد»، الذي انضم إليه 5.7 ملايين عضو. إلا أنه للمفارقة لم يحصل بعد أشهر إلا على أصوات 4.3 ملايين ناخب لدعم تعديلاته الدستورية.
تحسّن أداء الحزب في الانتخابات المناطقية لهذه السنة. تحسّن بات ملحّاً في ظل تزايد قوة المعارضة، وخصوصاً بعدما التحق بها عام 2007 جيل آت من الحركة الطالبية، أدخل عليها نفساً جديداً وأجبرها على تطليق مشاريعها الانقلابية. كما بات التحسن أكثر إلحاحاً لأن جمهور تشافيز صار أكثر نقدية. لم يرتد على زعامته، إلا أنه صار يضع له حدوداً من خلال التململ أو المقاطعة عندما يعتبر قراراته متسرعة أو مشاريعه راديكالية أو مرشحيه فاشلين.
راهن تشافيز الرئيس الأميركي، جورج بوش، خلال صيف 2004 بمئة دولار على من منهما سيبقى على كرسيّه السنة المقبلة. أسابيع قبل الاستفتاء الذي نظمته المعارضة لوضع حد لولاية تشافيز، وأشهر قبل امتحان إعادة انتخاب بوش. نجح الرجلان في الحالتين، ولكن الحادثة تدل كيف اختار تشافيز أن يحوّل بوش إلى خصمه المفضل ليرسخ شعبيته داخلياً وليبنيها خارجياً. أفضل نموذج عن هذا الأداء هو الرحلة الموازية التي نظمها تشافيز لتواكب رحلة بوش إلى أميركا اللاتينية في آذار عام 2007، ما أفسد بالكامل رحلة من لقبه تشافيز بـ«السيّد خطر» (ميستر دينجر). وفي حربه على «الإمبراطورية الأحادية»، لم يترك الرئيس الفنزويلي دولة إلا زارها، وكلما كانت على خلاف مع الولايات المتحدة، زاد شوقه لزيارتها. وهكذا تحوّل إلى «شريك» لإيران وفتح لها أبواب عدد من دول المنطقة. وعقد «حلفاً تسلحياً» مع روسيا، ووعد الصين بتموينها بمليون برميل نفط يومياً عام 2012.
على الصعيد الإقليمي، أسس «البوليفاري» عام 2004 مجموعة مع حلفائه تحمل اسم «ألبا» لمقاومة «ألكا» (مشروع منطقة تجارة حرة أميركية)، ونجح في دفن هذه الأخيرة في قمة مارديل بلاتا في تشرين 2005، موجهاً صفعة موجعة لبوش في وجوده. ومن أهم إنجازاته «بيترو كاريب»، التي تسلم النفط بأسعار مخفوضة وبتسهيلات دفع لدول أميركا الوسطى والكاريبي الفقيرة. وتشافيز مستعد دائماً للمساعدة، كما حصل مع كوبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع الأرجنتين في حشرتها المالية. توّاق دائماً لحرق مراحل الوحدة الإقليمية، فيما لا يتحمل شكليات البناء التدريجي والبطيء. بناءً عليه، يبدو أن تشافيز ماضٍ في حلمه، الذي سيحدّده استفتاء شباط المقبل، إضافة إلى أسعار النفط، التي كانت قوة سياسته خلال السنوات العشر الماضية.


الملهم البوليفاري