3 معضلات جوهريّة حرّكت الشارع: البطالة والفساد وانعدام الثقةمي الصايغ
بات معلوماً أن شرارة الانتفاضة الشبابية في اليونان اندلعت بعد مقتل الفتى الكسيس غريغوروبولوس (15 سنة) برصاص الشرطة. غير أن أساسها مرتبط بسياسات حكومة كوستاس كرامنليس، الذي بات يُدرك أن قوة المتظاهرين لا يمكن كبحها حتى لو أعلن حالة الطوارئ. ودعا قادة الأحزاب السياسية إلى لقاء موسع، مطالباً بوقف الأزمة، ومهدداً بخطر تدخل متوحش للشرطة. فخرج التحالف اليساري من الاجتماع ليدعو قائده، رئيس حزب «سيرزا»، اليكوس الفانوس، العمال والطلاب إلى متابعة تحركهم لإطاحة حكومة كرامنليس والمطالبة بانتخابات مبكرة، وباعتذار للشباب يشمل تجريد الشرطة من السلاح، ووقف إجراءات الخصخصة في القطاع التعليمي، وخلق فرص عمل جديدة.
كرامنليس، الذي يرفض إلى الآن دعوات الاستقالة، يخشى نجاح المعارضة في فرض قرار التصويت على الثقة في البرلمان، حيث لا يملك ائتلافه إلّا صوتاً واحداً مرجحاً على أصوات المعارضة. وفي ظل حال الغضب الشعبي في البلاد، قد لا يتمكن السياسي المحنك من ضبط تحركات نواب ائتلافه الحاكم.
ويعود سبب الأزمة إلى ثلاث معضلات جوهرية، بدءاً من اقتراب معدل البطالة بين الفئة التي تراوح أعمارها بين 18 و25 سنة إلى نسبة 25 في المئة، وعدم الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة التي نخرها الفساد، والرشى التي تحولت إلى أفيون للعاملين في الإدارات والمؤسسات العامة.
وبالتالي فإن الأحداث في البلاد ليست مجرد انفجار لفئة هامشية صغيرة من المحتجين الذين يميلون إلى العنف، بل انتفاضة اجتماعية بكل ما للكلمة من معنى. إذ أشارت السياسية اليونانية الفلسطينية الأصل، نورما رشماوي، إلى أن «أزمة الحكومة لا تقتصر على ما يجري الآن فحسب، بل هناك تراكمات ناتجة من فشلها وفسادها، إلى جانب الفضائح التي طالت وزراء اضطرت الحكومة إلى إخراجهم من صفوفها». وأضافت إنه بات «الفساد واضحاً أمام أعين الناس»، مستشهدةً بما جرى أخيراً من قيام الحكومة ببيع ممتلكات حكومية إلى دير أرثوذكسي في جبل اثوس.
كما أن اعتماد الحكومة اليمينية تعديلات وسياسات دعمت رؤوس الأموال والمصارف لا القوة الشرائية للمواطن الفقير «زادت الأغنياء غنى والفقراء فقراً»، الأمر الذي يتضح في النظام الضريبي، حيث أصبح ذوو الدخل المحدود، هم دافعي الضرائب الفعليين لا الأغنياء، الذين يتحكمون في اقتصاد البلاد.
وفي الأيام الأولى من التظاهرات، ألقيت المسؤولية على حفنة من الفوضويين والشبان الغاضبين في غزو الشوارع وتدمير الممتلكات، لكن الوقائع السياسية دفعت شرائح الطبقة الوسطى، والراشدين «أصحاب الشعر الرمادي» إلى الانضمام إليهم. فالمسيرة التي حفزها ائتلاف اليسار كادت تكون عامة، ما كسر هاجس الخوف والذعر من رد فعل الحكومة.
ومن خلال الأهداف التي اختارها المتظاهرون لتنفيس احتقانهم، يتضح أن استهدافهم لمراكز الشرطة ليس إلا لنقل رسالة احتجاج على سياسة الحكومة القمعية. أمّا هجومهم على المصارف، فهو تعرض لرموز الرأسمالية، تعبيراً عن سخطهم من السياسة النيوليبرالية.
فمتظاهرو أثينا ليسوا فقراء، بل هم أبناء الطبقة الوسطى. غضبهم موجه نحو النظام التعليمي، والفضائح التي طالت سياسييهم، والكنيسة وعدوانية رجال الشرطة.
ويعكس انضمام هذه الطبقة إلى التظاهرات المخاوف، ليس في اليونان فحسب بل في مختلف أنحاء العالم، من اضمحلال الطبقة الوسطى في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، التي لا تفرّق بين بلد وآخر، ما يتطلب من السياسيين اليونانيين إجراء ناجعة لمواجهة الأزمة.
غير أن المشكلة تكمن في عدم امتلاك النخبة الحاكمة أو المعارضة على حد سواء القدرة والأجوبة عن القضايا التي تشغل بال المواطن، وفق ما تناقلته الصحف اليونانية. فموجة التظاهرات كشفت عن ريبة متزايدة لدى الشعب اليوناني حيال طبقة سياسية ذات موروث إقطاعي تهيمن عليها عائلات تتقاسم السلطة منذ عقود، وعن سأم اليونانيين من حزب الديموقراطية الجديدة المحافظ بزعامة كرمنليس. لكن ذلك لا يعني أن الناخبين يؤيدون في المقابل البديل الوحيد المتاح أمامهم، وهو زعيم «الحزب الاشتراكي اليوناني» (الباسوك) المعارض، جورج باباندريو، لأن ذلك سيعني استبدال عائلة سياسية بأخرى.
وأظهر استطلاع، أعدته صحيفة «كاثمرني» الأسبوع قبل الماضي، يأس اليونانيين وإحباطهم من النخبة الحاكمة. ففي سؤال عمّن بإمكانه حل الأزمة السياسية القائمة كان الجواب «لا أحد». فتحول هذا الخيار إلى نكتة تناقلها اليونانيون في المقاهي، مناشدين «السيد لا أحد» إنقاذهم من الأزمة التي يتخبطون بها.
منذ 25 قرناً، قال الفيلسوف اليوناني هيراكيلتس «دعوا المدنية لشبابها». قول رأى الشاعر اليوناني اناستازاس فيستونيتس أنه ينطبق على الحال التي وصلت إليها بلاده «ما دمنا لم نستطع منع اليد الحديدية للنظام من قتل فتى في ربيع عمره». ويبقى هاجس شباب اليونان ألا تغرق بلادهم، ويغرقون معها.