موسكو ــ حبيب فوعانيترتبط «رهجة» زيارة الزعيم الليبي، معمّر القذافي، إلى روسيا، أولاً بانقطاعه العائد إلى عام 1985، وثانياً برغبة موسكو على وجه الخصوص بتثبيت أقدامها في المتوسط. طرابلس فتحت أبوابها ليس فقط بتلبية دعوة الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف، بل بما كشفته الصحيفة الروسية «كومرسانت» أمس عن أن «ليبيا على استعداد لاستضافة قاعدة بحرية روسية كوسيلة لردع أي احتمال أميركي لشن هجوم عليها، وذلك على الرغم من المحاولات الليبية المتعددة لتحسين العلاقات مع واشنطن». وإضافة إلى الوجود العسكري الروسي في أفريقيا من خلال ليبيا، أوضح الكرملين أن المباحثات بين البلدين اليوم ستتناول شراء أسلحة والتعاون في مجال الطاقة النووية.
بالعودة إلى تاريخ العلاقات بين البلدين، وتحديداً أيلول عام 1969، الذي شهد ثورة الفاتح، فقد تمكن عضو مجلس قيادة الثورة، نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية والحكم المحلي، الرائد عبد السلام جلود، من تدشين العلاقات الليبية ـــ السوفياتية، من خلال إشرافه وبوساطة مصرية، على عقد أول صفقة لشراء أسلحة روسية.
وبعد تعيينه وزيراً للاقتصاد والصناعة والمال في عام 1972، زار جلود موسكو ليوقّع عدة اتفاقيات في مجال تكرير النفط الليبي بإشراف الزعيم السوفيايتي ليونيد بريجنيف، الذي أراد معرفة كل شيء عن أبطال الثورة الليبية الحديثة، في ظل توتر علاقته مع أنور السادات.
وكانت لدى السوفيات مبرراتهم، فالملازم أول معمر القذافي لم يتحدث عن «الاشتراكية» في بيان الثورة الأول واستعاض عنها بكلمة «العدالة الاجتماعية»، ما اعتبره السوفيات آنذاك نأياً من القذافي عن تهمة التوجه اليساري أو الشيوعي لإرضاء صنّاع القرار الأميركي.
وعلى الرغم من أن القذافي تحوّل إلى استعمال مصطلح «الاشتراكية»، إلا أنه كان يطمئن مواطنيه في خطبه إلى أن اشتراكيته عربية إسلامية، وليست سوفياتية أو «اشتراكية ناصرية أو اشتراكية بعثية»، بل هي «نابعة من متطلبات واحتياجات المنطقة العربية وتراث العرب»، و«تستمد أصولها من الإسلام».
وقد أسهمت بعض مواقف القذافي بتوتر علاقته بالاتحاد السوفياتي بدءاً بعام 1970، حين ندّد بالدّور الروسي خلال الحرب الهندية ـــ الباكستانية، مسانداً إسلام أباد. وبعد عام، تآمر مع السادات، واختطفت أجهزته الطائرة التي كانت تقلّ قادة الانقلاب اليساري في السودان، بينهم الأمين العام السابق للحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، وتم تسليمهم إلى الرئيس السوداني جعفر النميري، الذي أمر بإعدامهم. كما كان يصف الاتحاد السوفياتي بالمستعمر الجديد والكافر.
مواقف القذافي لم تبطل اعتبار جلود، بحسب قول أحد الدبلوماسيين السوفيات القدامى لـ«الأخبار»، «ضمانة لاستقرار هذه العلاقات واستمراريتها»، وخصوصاً أن موسكو هدفت إلى «تعزيز مواقعها في شمال أفريقيا وفي البحر الأبيض المتوسط».
المرحلة بين عامَي 1976 و1985 تميّزت بتعاون اقتصادي ضخم بين البلدين. ويقول نائب مدير معهد الاستشراق الروسي، أناطولي يغورين، إن «الخبراء السوفيات أعدّوا خريطة للأراضي الزراعية الليبية ومدّ خطَّي كهرباء بطول 190 و467 كيلومتراً، وأنبوب للغاز بطول 570 كيلومتراً، وبإنشاء مركز تاجورة للأبحاث النووية».
أما سفير الاتحاد السوفياتي السابق في ليبيا بافل أكوبوف، فقال لـ«الأخبار» إن «موقع الأسطول البحري السوفيياتي كان قوياً في تلك الفترة في البحر الأبيض المتوسط، حيث كان يصول ويجول هناك ويضع الأسطول السادس الأميركي تحت رقابته الصارمة».
وبدأت علاقات البلدين بالأفول بعد ظهور أولى بوادر «البيريسترويكا» عام 1991. وحاول يفغيني بريماكوف، بعد توليه رئاسة مصلحة الاستخبارات الخارجية الروسية عام 1991، ترميم هذه العلاقات، لكن محاولاته باءت بالفشل، وخصوصاً بعد إصدار مجلس الأمن الدولي عام 1992، قراره 748، الذي فرض عقوبات اقتصادية على ليبيا.
إلا أن النقلة النوعية في التعاون بينهما تمثلت في تسلم فلاديمير بوتين الحكم عام 2000، إذ نجحت الشركات الروسية في الدخول إلى السوق الليبية، وخصوصاً «لوك أويل» النفطية، وعملاق الغاز الروسي «غاز بروم» ، الذي فاز عام 2007 في مناقصة للتنقيب عن النفط واستثماره بثلاثة مجمعات في حوض غدامس (جنوب).
وأسقطت موسكو ديونها على طرابلس في مقابل تنفيذ عقود تجارية. إلا أن المراقبين الروس أكدوا أن ليبيا لم تنفذ أياً من الاتفاقات التجارية المبرمة، ولم يتحرك مشروع إنشاء مؤسسة مشتركة مع «غاز بروم».
صحيفة «كومرسانت» قالت إن «العقيد سيحتفظ بالأنباء الطيبة لزيارته والتي ستلطف من ضيق الكرملين». فالمصالح المشتركة من جهة، وصعود الدب الروسي من جهة أخرى وخصوصاً بعد حرب جورجيا، تحتم على القذافي التحايل على ماضيه، والزواج من موسكو رغم أنه كان قد قال يوماً، إن «علاقة الحبّ بينه وبين الاتحاد السوفياتي لم تتحوّل إلى زواج».