أيام من المعارك الطاحنة كانت كفيلة بإعادة شبح مجازر الهوتو والتوتسي مجدداً إلى وسط القارة السمراء، لكن هذه المرة عبر بوابة جمهورية الكونغو الديموقراطية، حيث دخل جيشها في مواجهات مع المتمردين التوتسي، كادت تحوّل شرق البلاد إلى «رواندا جديدة»
مي الصايغ
مواجهات التوتسي والهوت، عادت لتتجدّد في الكونغو الديموقراطية. مواجهات مردها إلى عقدة الخوف التي تتملّك قائد المتمردين لوران نكوندا، الذي يصرّ على أن توتسيي شرق الكونغو لم يشعروا يوماً بالأمان. إذ لا تزال المجزرة التي راح ضحيتها مليون من التوتسي والهوتو في رواندا عام 1994، ماثلة في ذاكرتهم الجماعية. كما أن حكومة الكونغو الديموقراطية لم تحمِ التوتسي من ميليشيات الهوتو الرواندية، بل حوّلت أراضيها إلى جنات آمنة تستضيف مجرمي الحرب الروانديين الذين فروا إليها.
ومع انتقال الكونغو إلى الديموقراطية منذ ثلاث سنوات، استشعر «المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب» بزعامة نكوندا الخطر الداهم، إذ باتت إثنية التوتسي تعاني التهميش. ورغم موافقته على وقف إطلاق النار وتسريح المقاتلين من ضمن الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة في كانون الثاني الماضي، قام الجنرال المتمرد باقتطاع مساحات من الأراضي شرق البلاد، وإنشاء إدارة خاصة، تتولّى تحصيل الرسوم، ليعود ويستأنف العمل المسلح في آب الماضي لنزع سلاح ميليشيا الهوتو الرواندية.
ويعدّ الصراع في شرق البلاد جزئياً أحد وجوه الصراع بين قبائل التوتسي والهوتو، التي اقتتلت في حرب رواندا المجاورة عام 1994. ووقعت جمهورية الكونغو الديموقراطية في براثن الصراع العرقي والحرب الأهلية وتأثرت بالأعداد الهائلة للاجئين الفارين من القتال في رواندا وبوروندي. كما اجتاحتها قوات رواندية عام 1996 لتدمير مواقع قادة هوتو اتهمتهم بالمسؤولية عن مجازر رواندا. ومن ثم أطاحت حكومة الرئيس الكونغولي السابق، موبوتو سسيسيكو عام 1997 على يد لوران كابيلا، الذي سرعان ما تعرض نظام حكمه لتمرد تزعمته رواندا وأوغندا في آب 1998. وتدخلت على أثره قوات من زيمبابوي وأنغولا وناميبيا وتشاد والسودان لدعم نظام كينشاسا، وجرى التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في تموز 1999. واغتيل كابيلا في كانون الثاني عام 2001 ليخلفه ابنه جوزيف كابيلا، الذي بدأ بالتمهيد لإنهاء الحرب. لكن قبائل التوتسي (3 في المئة) رفضت الانضمام إلى الجيش الكونغولي وفق اتفاقية السلام التي أنهت الحرب الأهلية (1998-2003) وهاجمت مراراً الجيش بعد اتهامه بدعم اللاجئين الهوتو.
بيد أن هاجس نكوندا ليس حقوق التوتسيين فحسب، إذ تبقى عينه على الثروات المعدنية التي يزخر بها الإقليم الشرقي من البلاد. ثروات يستفيد منها بتمويل مقاتليه عبر تهريبها إلى رواندا. ما يعني أن ميليشياته ليس لديها مصلحة في وقف القتال. الأمر الذي يمكن استشفافه أيضاً من معارضته لصفقة بلغت قيمتها 9 مليارات دولار، منحت بموجبها الصين الحق بالوصول إلى ثروات الكونغو المعدنية، في مقابل بناء طرق وجسور. شكوك تحولت إلى يقين بعد تحقيق أجرته الأمم المتحدة، بشأن الاستغلال غير القانوني للثروات الطبيعية في الكونغو الديموقراطية. إذ أظهر أن الطلب على المعادن أسهم في تغذية النزاعات في الكونغو لسنوات عديدة. نزاع لا يزال يتمحور حول السيطرة والاتجار بـ 5 موارد أساسية هي: القصدير والكلتان والذهب والألماس، والنحاس.
موارد نهبتها الجيوش الأجنبية بطريقة منهجية. وترتّب على توافرها تحوّل جنود أوغندا ورواندا إلى رجال أعمال. فالجيش الرواندي جنى 250 مليون دولار خلال 18 شهراً عبر بيع الكلتان الذي يُستخدم في الأجهزة الخلوية والحاسوب المحمول، إلى الدول الغربية التي تعتمد عليه في صناعاتها الإلكترونية.
وبطبيعة الحال، مثّل النزاع موقفاً رابحاً لكل المقاتلين. وبكلام آخر أصبح «استغلال المعادن»، حسب مديرة برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جينفر كوك، «الوسيلة والغاية من النزاع».
إلا أنه مع اشتداد المعارك وفرار عشرات الآلاف من المدنيين وامتلاء المخيمات باللاجئين، استنفر المجتمع الدولي لدرء الكارثة الإنسانية والحيلولة دون اندلاع نزاع مباشر بين الكونغو الديموقراطية ورواندا، التي اتهمت كينشاسا بدعم قبائل التوتسي، وعلى رأسهم نكوندا لمهاجمة أراضيها وإطاحة الحكومة.
وأمام عجز الحكومة الكونغولية عن وقف زحف قوات نكوندا، لم تجد كينشاسا سوى جارتها أنغولا، التي شاركت قواتها في القتال. تدخل من شأنه أن يصعّد النزاع في الكونغو تصعيداً قد يجعله يمتد إلى ما وراء الحدود، الأمر الذي ستعدّه رواندا بمثابة استفزاز لها.
ورغم انعقاد قمة دولية في نيروبي، يوم الجمعة الماضي، تبقى المبادرات الدبلوماسية قاصرة عن الولوج إلى سلام دائم، ما لم يجرِ التركيز على أسباب النزاع، لكون الفوائد الاقتصادية من الحرب تبقى من المبررات الأساسية لأطرافها.


عودة الهدوء إلى شمال كيفو وجنوبها

عاد الهدوء الحذر ليسيطر على الحدود بين إقليمي شمال كيفو وجنوبها في شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية، بُعيد معارك عنيفة اندلعت أمس بين الجيش الكونغولي والمتمردين التوتسي بزعامة لوران نكوندا في مدينة نغونغو.
وقال المتحدث باسم قوة الأمم المتحدة في الكونغو، العقيد جان بول ديتريش، «اندلعت معارك بالأسلحة الثقيلة بين متمردي المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب بزعامة نكوندا من جهة، وميليشيات «ماي ماي» الموالية للحكومة ومتمردين روانديين ينتمون إلى القوات الديموقراطية لتحرير رواندا من جهة أخرى». في هذه الأثناء، دعا رئيس جنوب أفريقيا، غاليما موتلانتي، أمس، إلى «وقف فوري لإطلاق النار» في جمهورية الكونغو الديموقراطية بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
وقال موتلانتي، مفتتحاً قمة إقليمية طارئة مخصصة لبحث أزمتي الكونغو وزيمبابوي، «ندعو إلى وقف فوري لإطلاق النار بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى النازحين». وأضاف «نحن مقتنعون بأن لا حل عسكرياً» في الكونغو.
وفي ما يتعلق بالاتهامات التي ساقتها قوة حفظ السلام في الكونغو ضد القوات الأنغولية، بشأن مشاركتها القتال إلى جانب الجيش الكونغولي، رفض الوفد الأنغولي هذه التهمة، نافياً وجود جنود من بلاده في كينشاسا. وكانت قمة نيروبي، التي اختتمت أول من أمس أعمالها في العاصمة الكينية، قد دعت إلى وقف إطلاق النار، بحيث تتمكّن فرق المساعدة الإنسانية من الوصول إلى المشرّدين الذين فروا بسبب المعارك الدائرة شرق البلاد.
(أ ب، أ ف ب)