أردوغان ينقلب على نفسه: بدأ كأوباما وانتهى كجورج بوش!أرنست خوري
«كل شيء مسموح في سبيل الفوز بالانتخابات». قاعدة لم تشذّ تركيا عنها. حتى «العدالة والتنمية» الذي يحكم منذ 2002، ويُوصف عهده بأنه بداية تأريخ لـ«تركيا جديدة» من ناحية سلطة العسكر وطبيعة العلمانية والتعاطي مع الأكراد وبقية الأقليات، فلم يكمل ما بدأه في التعهّد باستراتيجية جديدة لحل المعضلة الكردية في إطار دولة موحّدة لا تصنّف مواطنيها كباب أول وثانٍ وثالث...
أشهر فقط فصلت بين خطابات أردوغان «الثورية» كردياً، حين اعترف بوجود أزمة وتعهّد بتصحيح خطأ التعاطي مع من يشكلون نحو ثلث سكان البلاد، وبين ما وصفته الصحف التركية في الأسابيع الأخيرة بأنه انقلاب جذري في تلك الرؤية الأردوغانية.
ويمكن لمتابع الصحف المقرّبة حتى من الحزب الإسلامي المعتدل، أن يلاحظ نقمة واسعةً إزاء هذا الانقلاب. والأمثلة هنا لا تُحصى: الكاتب الشهير في «يني شفق» فرمي كورو يتهم رئيس حكومته بأنه «انتُخب كباراك أوباما، كإصلاحي ومنفتح على الحوار ومعيد للنظر بسياسات بلاده القديمة، وتحوّل اليوم إلى جورج بوش الابن». مقارنة غريبة تبنّاها كاتب «ملييت» حسن كمال الذي أشار إلى أن «العسكر منع ديميريل ورئيسة الحكومة السابقة تانسو تشيلر من التصالح مع الأكراد، غير أن أردوغان منع نفسه عن ذلك من دون ضغط الجيش».
ويمكن للمتابع نفسه أن يلاحظ عنواناً عريضاً واحداً لحكومة أردوغان في الخطاب والسلوك إزاء الأكراد: اقتربت انتخابات المحافظات التركية المقرر تنظيمها في آذار المقبل!
هو استحقاق سيكون حاسماً نظراً إلى معطيين: أولاً نظراً إلى الصلاحيات الواسعة المعطاة لرؤساء البلديات عملاً بنظام اللامركزية الواسعة المعتمدة إدارياً في تركيا. وثانياً، لأن شعبية «العدالة والتنمية» مستقرة في أعلى هرم التنظيمات السياسية التركية، وبات التحدّي محصوراً بالنسبة لهذا الحزب في المناطق الكردية التي لا يزال كلام الرئيس عبد الله غول يحوم فوقها عندما قال لمناصريه في ديار بكر قبل نحو عامين: «أعدكم بأن يكون رئيس بلديتكم في انتخابات عام 2009 من حزبنا».
المفارقة في سلوك أردوغان كبيرة. فمنذ 2002، بدا كأنه سيرسي نمطاً مختلفاً في التعاطي مع الأكراد؛ أطلق خطّة العفو عن شريحة «ممن لم تتلطّخ أيديهم بقتل أتراك» (على الطريق الإسرائيلية في تصنيف المقاومين الفلسطينيين) من مقاتلي «العمال الكردستاني» ووعدهم بـ«حياة جديدة». ثم وضع استراتيجية لصرف 12 مليار دولار لتنمية جنوب شرق البلاد اقتصادياً وتربوياً وثقافياً واجتماعياً، وأمر بفتح تلفزيون حكومي ينطق باللغة الكردية (إلى جانب العربية والفارسية) (كلها لم يتحقق منها شيء حتى اليوم)، وعيّن مسؤولين كباراً في حزبه وحكومته من الأكراد... والأهم من ذلك، خرق حالة الإنكار الدائم حيال مطالب الأكراد، وقال في خطاب في ديار بكر في عام 2006 «أنتم محقّون. هناك مشكلة كردية في تركيا».
لكن في مقابل كل ذلك، سار حزب أردوغان، ولا يزال، على خطّة تغيير طبيعة التمثيل السياسي لمنطقة جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية الساحقة ومنافسة حزب «المجتمع الديموقراطي» على أرضه وبين جمهوره. وبالفعل، فقد نجح في جذب عدد من نواب المنطقة وممثليها إلى صفوفه.
غير أن منعطفاً كبيراً برز في الأسابيع الأخيرة، عندما بدا وكأن أردوغان حسم خياره باتجاه صبّ كل جهوده عشية انتخابات آذار المقبل، على دعم وتقوية الأكراد المؤيّدين لحزبه لحسم المعركة الانتخابية، مستنداً إلى مدّ إسلامي يغزو تلك المناطق الكردية التي كانت تاريخياً معروفة بنزعتها اليسارية القومية.
إذاً، كانت هناك استراتيجيتان: إما دمج الأكراد في الوطن وإنصافهم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسياسياً، أو إغراء أكبر طيف سياسي منهم للانتساب إلى الحزب الحاكم وتبوّؤ أرفع المناصب الحكومية. ويبدو أن أردوغان وحزبه قرّرا السير بالخيار الثاني، من خلال «تحزيب» الأكراد في «العدالة والتنمية» بدل دمجهم في الوطن. وفي الأسابيع القليلة الماضية، أطلق أردوغان مجموعة من التصريحات أظهرت بوضوح ملامح الوجهة تلك. فخلال إحدى زياراته الانتخابية قبل أسبوعين، أطلق خطاباً «صدم» حتى كتاب الصحف المحسوبة على حزبه. فمن أرضروم، قال ما لم يسمعه الأكراد إلا من شوفينيي تركيا في معرض تعليقه على التظاهرات رداً على أنباء تعذيب عبد الله أوجلان: «نحن أمة واحدة ودولة واحدة ووطن أم واحد ولدينا علم واحد، ومن لا يعجبه هذا، فما عليه سوى الرحيل!». ولم يكتفِ أردوغان بهذا القدر من «إهانة ثلث مواطنيه»، فدافع عن ذلك المدني الذي أطلق النيران من سلاحه على تظاهرة كردية في اسطنبول وقتل أحد المشاركين فيها.
سلوك أردوغان الجديد أغاظ كثيرين، ووصل الزلزال إلى نائبه في رئاسة الحزب، مير محمد فرات، كردي الجذور بدوره. استقال الرجل قبل أيام ليس بسبب «وضعه الصحّي» كما أُشيع، فقد أكّد فرات بنفسه لعدد من الصحف أبرزها «توداي زمان» أنّ استقالته جاءت ردّاً على «سلوك أردوغان الجديد الذي نقض فيه ما كان بدأه منذ عام 2006 كردياً».
أما عن بديل فرات، وزير الداخلية السابق عبد القادر أكسو، فقد أجمعت صحف المعارضة والموالاة على أن الغاية منه انتخابية، بما أن الرجل ـــ ورغم أنه كردي من ديار بكر تحديداً ـــ مؤيّد للتشدّد مع أبناء لغته وجلدته، والهدف من تعيينه «محصور بسرقة منصب رئاسة بلدية ديار بكر من رئيسها الحالي» عثمان بيدمير القيادي في «المجتمع الديموقراطي».


«المجتمع الديموقراطي» يستعجل حظره!وتشير جميع التقديرات إلى أن الحزب الكردي يرجّح أن يقضي قرار المحكمة الدستورية بحظره فعلاً أسوة بما حصل مع بقية الأحزاب الكردية. لذلك، فإنّ قادته، ممثلين برئيسه أحمد تورك، يفضّلون أن يصدر قرار الحظر في أقرب وقت ممكن، ليتسنّى لهم تعبئة جمهورهم قبل انتخابات آذار، في إطار الحزب الجديد الذي أسّسوه في أيار الماضي «احتياطاً»، وهو «حزب السلام والديموقراطية».
الحملات الانتخابية تنطلق رسمياً في الأول من كانون الثاني المقبل، والقانون التركي يشترط على أي حزب يود المشاركة في الانتخابات أن يفتح فروعاً في نصف مدن تركيا على الأقل، لمنع أي صبغة طائفية أو قومية عنه.