تأتي زيارة ديمتري مدفيديف إلى أميركا اللاتينية، مع انتخاب رئيس أميركي جديد هو باراك أوباما، وبعدما أصبحت الصين ثاني بلد بعد أميركا، بحجم علاقاتها التجارية مع دول القارة الجنوبية. بهذين المعنيين، إنها زيارة متأخرة. لكن ميزة المقاربة الروسية أنها مدعومة بسلاح الطاقة والتكنولوجيا
بول الأشقر
«روسيا عادت إلى أميركا اللاتينية ولا سيما كوبا»، عبارة قالها الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف قبيل مغادرته جزيرة كوبا، آخر محطة له في رحلة نقلته من ليما البيرو، حيث مقر قمة «أبيك» الاقتصادية، إلى البرازيل وفنزويلا. زيارة هدفت إلى توثيق العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين البلدين التي عرفت أوجها خلال الحرب الباردة، إلا أنها تدهورت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قبل أن تعرف انتعاشاً جديداً مع زيارة رئيس الوزراء آنذاك ميخائيل فرادكوف عام 2006.
وأجرى مدفيديف محادثات مع الرئيس الكوبي راوول كاسترو، شقيق قائد الثورة الكوبية فيدل كاسترو وخليفته. وأعلن وجود تعاون بين البلدين في «المجال الإنساني والاقتصادي وفي مجال الطاقة والتكنولوجيا العسكرية، وهو غير موجّه ضد أي دولة»، في إشارة إلى الولايات المتحدة التي لا ترحّب بالتقارب الحاصل بين روسيا وفنزويلا ورئيسها هوغو تشافيز.
وتحتل روسيا الآن المرتبة العاشرة في شركاء كوبا التجاريين، بعدما كان الاتحاد السوفياتي المموّن الأول للجزيرة بالبضائع والطاقة والأسلحة والتكنولوجيا بين عامي 1961 و1991. وزيارة ميدفيديف هذه هي الرابعة التي يقوم بها رئيس روسي إلى كوبا. أما الأولى، فقد تجسدت بليونيد بريجنيف عام 1975، وتلتها زيارة ميخائيل غورباتشوف عام 1989، ثم فلاديمير بوتين عام 2001، التي جاءت قبل أشهر قليلة من قراره تفكيك قاعدة «لورديس»، التي كانت مصدر موارد مهماً للجزيرة.
ورغم التصريحات الكثيرة بشأن إعادة تسخين الزواج القديم، بقي التقارب براغماتياً ومحصوراً في الشؤون الاقتصادية نتيجة ترقب الكوبيين التدابير الأولى التي سيتخذها الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما إزاء بلادهم، عند تسلّمه السلطة، وعودتهم إلى «سيناريو المنطقة» مع توجّه راوول كاسترو بعد أسبوعين إلى البرازيل.
وغادر مدفيديف كوبا بعدما وضع إكليلاً من الزهر أمام نصب «الجندي السوفياتي» في هذه الجزيرة.
في المقابل، كانت زيارة مدفيديف إلى فنزويلا هوغو تشافيز مميزة، حيث وقّع الرئيسان بروتوكولياً على إنشاء محرّك نووي لأغراض مدنية، وهو تحقيق لوعد قطعه بوتين لتشافيز قبل شهرين، ولحلم لاحقه هذا الأخير عبثاً في السنوات الأخيرة مع البرازيل والأرجنتين وإيران.
وعلى هامش «حماسة الصحافة العالمية» لقراءة فصل جديد من الحرب الباردة في مشهد قطع البحرية الروسية في كاراكاس، كذّب مرة جديدة الرئيس الفنزويلي تفسيراً كهذا «بداية لأنها غير موجّهة ضد أحد». وتمثلت أهمية الزيارة في الاتفاق على التعاون النفطي والاستثمار في قطاع الأورينوك الأمازوني، وهو من أكبر احتياطات النفط في العالم، إضافة إلى صيانة البنى التحتية وتحديثها، وخصوصاً المرفئية.
وكان تشافيز قد اشترى بين عامي 2005 و2007، أسلحة من طائرات إلى رشاشات خفيفة بقيمة 4 مليارات ونصف مليار دولار. وفي هذه الزيارة، جاءت زيادة التعاون في الطيران المدني كتحصيل حاصل. في المقابل، لم يخرج موضوع مصرف مشترك بين البلدين من الورق بعد.
أما زيارة البرازيل، فكانت بين طرفين ينتميان إلى نادي «بريك»، الاقتصادات الصاعدة، الذي يضم أيضاً الهند والصين. مدفيديف ردد من دون ملل أن البرازيل «شريكنا الأول» في المنطقة. والتقى الرئيسان، مدفيديف ولويس ايناسيو لولا دا سيلفا، اللذان يفترض أن يتزايد وزنهما في بت الشؤون الاقتصادية العالمية ليعلنا «ليست دولنا مسؤولة عما يحدث في العالم».
بحث الرئيسان، في الاجتماع الذي جرى بينهما في ريو لا في برازيليا، التعاون في استثمار موارد النفط الكبيرة التي اكتشفتها البرازيل تحت قشرة الملح في المحيط الأطلسي، وجرى توقيع اتفاق تعاون نووي واتفاق تعاون في برنامج قاذفات الصواريخ الفضائية. وقالت مصادر مقربة من الخارجية البرازيلية إنه «جرى تقارب جوهري في مسألة توسيع مجلس الأمن، وهو مطلب برازيلي تقليدي. كما أثيرت العوائق التي تضعها موسكو أمام اللحوم البرازيلية، وعلى صعيد التعاون العسكري الذي تزداد أهميته مع برنامج إعادة تسليح الجيش البرازيلي».
إذاً، ها هي روسيا تعود إلى أميركا اللاتينية، حيث حلفاؤها السابقون الذين تخلت عن معظمهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بعدما عادت إلى رشدها لتدرك الأهمية الاستراتيجية لهذه الدول، في مواجهة الولايات المتحدة، ودرعها الصاروخية في أوروبا الشرقية.