سمح حلف شماليّ الأطلسي لنفسه مرّات عديدة بأن ينتهك سيادة الدول تارة باسم حقوق الإنسان، وتارةً أخرى بالدفاع عن دولة عضو، وبصورة استنسابية، وبات الأداة العسكرية للنظام العالمي، وتراه اليوم يمدّد مهمّاته فيُعلن حربه على القرصنة والمخدّرات
شهيرة سلّوم
حين أبصر حلف شمالي الأطلسي النور في نيسان عام 1949، كان الهدف واضحاً: مواجهة المدّ الشيوعي الزاحف نحو «العالم الحرّ» والمتمثل في منظومة الاتحاد السوفياتي، فأتى ردّ الكتلة الاشتراكية بإنشاء حلف وارسو. توترت العلاقة بين المعسكرين لكن لم تبلغ حدّ المواجهة المباشرة، رغم ارتفاع حرارتها في كثير من الأحيان كما حصل في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
انهار الاتحاد السوفياتي ومعه حلف وارسو عام 1991، ففقد الأطلسي مبرّر وجوده، ما دفعه إلى إعادة تقويم استراتيجي لأهدافه وطبيعته ومهمّاته. بدأ بالتوسّع شرقاً بضمّ ألمانيا الموحّدة، لكن، تجنباً للاعتراض الروسي، تريث قليلاً ووعد بالانكفاء.
وعد لم يلتزم به، وأطلق العنان لزحفه شرقاً ليشمل دولاً كانت سابقاً ضمن المنظومة السوفياتية، ثم أعاد هيكلة أهدافه للانسجام مع الواقع الجديد؛ لم يعد تدخل الحلف يستهدف منظومة فكرية وسياسية والدفاع عن انتهاك سيادة دولة عضو، بل كلّف نفسه حماية القيم الغربية.
الاختبار الأول له كان في يوغوسلافيا السابقة بين عامي 1993 و 1996؛ تدخل باسم حقوق الإنسان، ثم أتى تدخله العسكري والإنساني في كوسوفو عام 1999، ليُصبح الحلف الأداة العسكرية للنظام العالمي، بعد قيامه مجدّداً بإعادة تقويم لاستراتيجيته العسكرية لشرعنة تدخله «الإنساني» عام 1999.
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، وللمرة الأولى في تاريخه، طبّق الحلف المادة الخامسة من ميثاقه، التي تنص على أنّ أي اعتداء على دولة عضو في الحلف يعتبر اعتداءً على كل الدول الأعضاء، ما سمح له بالتدخل في أفغانستان تحت لواء «إيساف».
في الحالة العراقية، عجز «الأطلسي» عن حشد الإجماع الذي حصل عليه باجتياحه أفغانستان، إلا أنّه عاد وتدخل عام 2004 بضغط من الولايات المتحدة على شاكلة قوّة عسكرية تقوم بتدريب قوات الأمن العراقية.
اليوم حروب «الأطلسي» توسّعت، لم تعد تستهدف دولاً أو أنظمة أو مجموعات انتهكت سيادة دولة عضو أو حقوق الإنسان أو الديموقراطية الغربية، أكانت السياسية أم الاقتصادية، بل باتت تستهدف ما يُعدّ من صلب واجبات الدولة السيادية، كمكافحة القرصنة والمخدرات.
في الأمس القريب، أعلن «الأطلسي» حربه على القراصنة القابعين قبالة الشواطئ الصومالية، وقرّر الانضمام إلى عمليات مكافحة القرصنة وإرسال سبع سفن حربية «لمرافقة السفن الغذائية» في غضون أسبوعين، بناءً على طلب برنامج الغذاء العالمي، على أن تبقى حتى أواخر كانون الأول.
وبعدها أعلن الحلف: «بناءً على طلب الحكومة الأفغانية، وانسجاماً مع قرارات مجلس الأمن الدولي، وبموجب الخطة العملية الموجودة، بإمكان «إيساف» أن تتدخل بالاتفاق مع الأفغان ضدّ داعمي المتمرّدين ومصادر تمويلهم، التي تأتي المخدرات في مقدمتها».
بخلاف قضية القرصنة، فإنّ الحلف يمكنه أن يتدخل لمحاربة المخدرات تحت غطاء «إيساف» التي تحارب حركة «طالبان» في أفغانستان، فيعتبر نفسه مسؤولاً عن قطع موارد «العدو» ألا وهو المخدرات، فيلتفّ بذلك على مسألة شرعية حربه الجديدة.
أما في ما يتعلّق بمكافحة القرصنة، فالأمر لا ينسجم مع صلاحياته الميثاقية بتاتاً، فالاعتداء يقع ضمن النطاق السيادي لدولة الصومال، إذ إنّ القرصنة تجري ضمن المياه الإقليمية الصومالية، وبالتالي، فإن تدخله يجب أن يكون بطلب من مقديشو، ما يعني أنه سيأتي خلافاً للقانون الدولي للبحار.
إلا أن «الأطلسي» يمكنه أن يوسع نطاق مهمّاته استناداً إلى الاستراتيجية الجديدة التي أطلقها من واشنطن في نيسان 1999، والتي أقرّ خلالها مفهوماً استراتيجياً جديداً للتحالف يتلاءم مع التطورات الدولية، فبات الهدف الأول للحلف «تأمين أمن وحرية أعضائه بجميع الوسائل السياسية والعسكرية»، وأقرّ أنّه «يعمل في بيئة متغيّرة» وبالتالي وسّع من نطاق تدخله ونصّب نفسه «حارس الأمن الدولي»، وشرّع تدخله في كل ما يمسّ هذا الأمن.
وبالتالي ليس مفاجئاً أن نراه يُعلن الحرب على القرصنة والمخدرات؛ فقد نشهد يوماً يصبح فيه الإصلاح الإداري ضمن اختصاص الحلف، فيتدخل بالقوة «السياسية والعسكرية» لفرضه بحسب مفهوم «القيم الغربية الرأسمالية» لهذا الإصلاح.