أرنست خوريتركيا تقدّم يومياً دروساً في كيفية تفوّق الدبلوماسيّة الواقعية على الأيديولوجيا: المعضلة العراقية وأكرادها نموذجاً.
من الجيوبوليتيك، أدرك حكام «العدالة والتنمية» أنّه لا بدّ من احترام قاعدة «الحتميّة الجغرافية» التي تفيد أنه لا يمكن ربح معركة ضدّ أكراد مختبئين في هضاب وجبال كردستان العراق من دون الحديث مع أهل هذا الإقليم وحكّامه.
ومن تكتيك الحروب، فهموا أنّ حرب العصابات التي يشنّها حزب العمال الكردستاني يجب أن تواجَه بحرب عصابات مقابلة، لا بالآلاف المؤلّفة من القوات النظامية.
أما من الواقعية السياسية، فقد تعلّموا أن لا عدو دائماً ولا حليف أبدياً، حتى إنهم قد يكونون لامسوا حدّ الماكيافيلية، إذا اعتبرنا أنّ الاعتراف بشرعية حكومة إقليم كردستان العراق كان من الخطوط الحمراء، التي بقيت من ثوابت السياسة التركيّة.
ملاحظات تبرّر الحديث عنها مجموعة تطوّرات حصلت، ومواقف صدرت في اليومين الماضيين من أنقرة، مفادها أنّ القيادة هناك قرّرت اعتبار أنّ الحديث مع أكراد العراق لم يعد «من المحظورات»، أو بتعبير الرئيس عبد الله غول «لم يعد تابوهاً».
كان غول يردّ على ما نُشر أول من أمس عن دعوة رئيس حكومة كردستان نيجيرفان البرزاني لزيارة أنقرة، في الأيام المقبلة، تحت عنوان التنسيق الثنائي لمنع المقاتلين الأكراد من مهاجمة الأراضي التركية. وما إن تأكّد الخبر، حتّى شاع نبأ ثانٍ أكثر حدّة، نشرته صحيفة «ملييت»، وهو أن غول سيزور بغداد و... أربيل هذا الشهر، وأنه لم يحدّد موعد الزيارة بعد، لأنه يدرس إمكان افتتاح مطار أربيل الدولي الذي بنت معظم أجزائه شركات تركيّة!
«الأسوأ» هو ما كشفت عنه النقاب صحيفة «توداي زمان»؛ فبعد ساعات من عملية «أق توتون» التي أودت بحياة 17 جندياً تركياً على يد المقاتلين الأكراد، يوم «الجمعة الأسود» في الثالث من الشهر الجاري، كانت اجتماعات سرية جارية في أنقرة، بين مستشار مسعود البرزاني، سافين ديزايي، وبين رسميين أتراك لتنسيق التعاون بين الطرفين تجاه «العمال الكردستاني».
وفي سياق تبريره «ما هو منطقي»، قال غول «انفتاحنا على أكراد العراق هو السياسة الصائبة لسببين: نعترف بجميع أطياف الشعب العراقي ومؤسساته. ثمّ لأن الأعمال الإرهابية الكردية تأتي من مناطق جغرافية صعبة في العراق. بالتالي علينا أن نتحدّث مع أهل شمال العراق لننسّق مكافحة المقاتلين».
الأهم في الموضوع ليس أنّ حكام أنقرة يحاورون مسؤولين أكراداً بصفتهم العراقية المركزية. فالرئيس جلال الطالباني سبق أن زار تركيا بصفته رئيس الجمهورية العراقية. لكن هذه المرة البرزاني يزورها بصفته الكردية، كذلك يعترف غول بحقيقة الإقليم الكردي عندما يحطّ في أربيل. وهناك سيعرض الرئيس التركي تنفيذ خطة جيش بلاده بإقامة منطقة عازلة داخل كردستان العراق برضى أهله.
إذاً، الحرب تفتح جميع القنوات بالنسبة إلى تركيا؛ فأوّل حديث علني بين حكومة الإقليم الكردي وحكام أنقرة، جرى في 1 أيار الماضي حين زار رجب طيب أردوغان بغداد واستقبله عن الطرف الكردي نيجيرفان البرزاني الذي يستعدّ لزيارة أنقرة.
تمكّن «كيسنجر تركيا» أحمد داوود أوغلو حتى الآن من إزالة حواجز المستحيل بين أكراد العراق وبلاده. لعلّه يعلم أنّ مفتاح الحلّ يبقى في الجيب الشخصي لمسعود البرزاني، الذي يبدو أنّ الحاجز الكونكريتي الذي يمنعه من زيارة قبر أتاتورك في أنيتكبير قد زال.