أرنست خوريغياب أي موقف تركي من الاعتداء الأميركي على سوريا كان لافتاً، لا تبرره إلا سياسة أنقرة في قياس مواقفها بميزان الذهب. وربما كان الصمت تعبيراً عن قلق على مصير رعايتها للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل منذ أيار الماضي.
وحتى يوم أمس، كانت تركيا شبه غائبة عن الحدث السوري؛ فالاعتداء الأميركي على منطقة البوكمال مرّ وكأن شيئاً لم يحصل بالنسبة إلى الأتراك، مسؤولين وصحافيين حتى. صمت خرقته تسريبات ضئيلة من نوع تأكيد دبلوماسي تركي أنّ بلاده «لم تُعلَم مسبقاً بمخطّط الهجوم الأميركي».
فعلى الصعيد الرسمي، لم يصدر عن أنقرة أي بيان تنديد أو تضامن مع دمشق رغم التقارب غير المسبوق الذي طرأ على العلاقات التركية ــ السورية في عهد حكّام «العدالة والتنمية». أما في الصحف التركية، فالحدث لم يحجز لنفسه مساحة رئيسية. حتى إنّ معظم الصحف، اكتفت بنقل أخبار الغارة والمواقف عن وكالات الأنباء العالمية من دون إرسال فرق تغطية ميدانية.
غير أنّ صحيفتي «حرييت» و«دايلي توركيش نيوز» اهتمّتا أول من أمس، بإبراز جانب لم يُثَر على خلفية الاعتداء الأميركي: وساطة «السلام» التركية في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل (التي اجتازت مراحلها الأربع وأُرجئت جولتها الخامسة في أيلول الماضي إثر الأزمة السياسية الداخلية في الدولة العبرية)، باتت في خطر!
فقد رأت الصحيفتان أن الغارة من شأنها «تجميد» هذه المفاوضات «التي تندرج ضمن مساعي تركيا إلى خلق شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً» على حدّ تعبير الصحيفتين.
وفي السياق، فإنّ «جهود تركيا السلمية» عرفت في أقل من أسبوعين حدثين يحملان نتائج معاكسة: فمن جهة، عزّز انتخاب تركيا كممثل أحد مقعدي القارة الأوروبية كعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي، من قيمة موقعها السلمي في المنطقة.
ومن ناحية أخرى، أتت الغارة الأميركية لتضع الوساطة التركية نفسها «تحت النيران»، وذلك أيضاً لسببين:
الأول لأنّ السوريين قد يتّخذون موقفاً سلبياً من مواصلة المفاوضات، لعلمهم مدى التلاصق الحاصل في سياسات إدارة جورج بوش وحكومة إيهود أولمرت. والثاني مفاده أن التردّد قد يكون مصدره إسرائيلياً، بما أن «استمرار سوريا في تسهيل حركة الإرهابيين للتوجه إلى العراق (وهو التبرير الأميركي لعملية الأحد الماضي) سيسبب توقف الإسرائيليين عن مواصلة التفاوض مع دولة تهدد الأمن الأميركي» على حدّ تعبير مدير القسم التركي في معهد «واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» سونر كاغابتاي.
ويكشف كاغابتاي عن أن الرئيس الأميركي الذي سينتخَب في غضون أيام، كان مقرراً أن يحضر أول جلسة مفاوضات إسرائيلية ــ سورية مباشرة، «غير أنه في ظل الظروف الراهنة التي خلقتها الغارة الأميركية بات الأمر أصعب مع تبيّن أن سوريا لا تزال تدعم الإرهابيين».
غير أنّ الأستاذة في جامعة «الشرق الأوسط التقنية» في أنقرة، مليحة ألتونيسيك، تضع بدورها الهجوم الأميركي في خانة المسار السياسي الطبيعي لإدارة بوش إزاء دمشق قبل أن تستدرك قائلة إن «بوش وفريقه لا ينظرون بحرارة إلى المفاوضات الجارية مع دمشق». وتجزم ألتونيسيك في هذا الإطار بأن سوريا «ستتعمّد تأجيل جولات المفاوضات المقبلة إلى ما بعد انتخاب الرئيس الأميركي»، حتى إن دمشق قد تتذرّع بـ«العمل الإرهابي وجريمة الحرب» لترجئ المفاوضات على أمل انتخاب «رئيس يتعلم الدروس من أخطاء إدارة بوش ويعمل على حماية أرواح الأميركيين» على حدّ تعبير وزير الخارجية الأميركية وليد المعلم يوم الأحد الماضي.
بذلك تكون دمشق قد رفعت سقفها وباتت تشترط وصول إدارة جديدة في واشنطن لكي تواصل مفاوضاتها مع تل أبيب، أكانت مباشرة أم غير مباشرة.