باريس ــ بسّام الطيارةمن الطبيعي أن كلّ أزمة عالميّة تسلّط الأضواء على التناقضات الأوروبية التي تعود أصولها إلى جذور البناء الأوروبي عبر التاريخ. هكذا حصل قبل غزو العراق، وهكذا يحصل اليوم بعدما فتحت حرب القوقاز جروح التاريخ الأوروبي. هكذا يمكن تبرير دعوة فرنسا، التي ترأس الاتحاد الأوروبي، إلى عقد قمة استثنائية في بروكسل اليوم.
وما يحصل في القوقاز هو باعتراف أكثر من مسؤول «أزمة كبيرة، لأنه يمثّل تحدّياً للغرب»، وهو ما يفسّر تناقضات المواقف بين العواصم الكبرى، وهو ما عكسته أيضاً تصريحات وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير المليئة بالتناقضات، وخصوصاً حين تكلم على «عقوبات ضدّ روسيا» قبل أن يصدر «توضيح من الإليزيه» بأن العقوبات ليست «مطروحة على الطاولة».
ووصلت إلى العواصم الأوروبية أصداء «رسائل إيجابية» تحاول موسكو توجيهها إلى قادة دول الاتحاد الأوروبي. رسائل تجمع على تأكيد «التزامها تطبيق خطة التسوية في القوقاز» التي وضعها الرئيس نيكولا ساركوزي، والتشديد على أنّ موسكو تنوي سحب كل قواتها من الأراضي الجورجية.
ويتّفق المراقبون على أنّ موسكو قد بدّلت قفاز الحديد العسكري بقفاز الدبلوماسيّة المخملي في محاولة لسحب البساط من تحت «الدول المتطرفة»، في إشارة إلى بولندا ودول البلطيق التي تسعى إلى إقرار عقوبات بحقّ روسيا.
وتندرج في هذا السياق تصريحات الرئيس الروسي ديميتري مدفيديف حين شدّد على أنّ بلاده «تؤيد إرسال مراقبين إضافيين من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إلى المنطقة الأمنية»، موجهاً رسالة تفيد برغبة روسية في بناء «حوار بنّاء» مع الاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية أخرى.
ولكن هناك من يذكّر بخلفيات «اللعبة الروسية» التي تمارس، بحسب قول دبلوماسي أوروبي، «لعبة فرّق تسد» بهدف «كسر الحلف الأوروبي» الذي يمكن أن ينشأ في مواجهة موسكو، وهو ما برّر خروج فلاديمير بوتين من الظل ليدير الجولة المقبلة على مسرح العلاقات الدولية. وتبلور خروجه في مقابلة مع شبكة «سي أن أن» التلفزيونية الأميركية اتهم فيها «إدارة جورج بوش بإشعال فتيل الأزمة لخدمة مصالح (المرشّح الرئاسي الجمهوري جون) ماكاين».
ويعترف دبلوماسي فرنسي رفيع المستوى بأنّ بوتين «رمى ريبة وشك» في صفوف مؤيّدي الخطّ المتشدد بين حلفاء واشنطن في أوروبا، بغضّ النظر عن صحة هذا الاتهام من عدمه، وخصوصاً أنّ هذا الاتهام الصريح ترافق مع صدور «اتهامات غير رسمية» من بعض خبراء منظمة التعاون والأمن الأوروبي بأن جورجيا «كانت البادئة بالعدوان»، مرفقة بإدانة لها على خلفية «إمكان أن تكون قد ارتكبت قواتها جرائم ضدّ الإنسانية في أوسيتيا وأبخازيا».
وفي الوقت نفسه، فإنّ المسؤولين الروس لم يكفّوا عن التشديد على أنّ «الاقتصاد شيء، والتوتّر السياسي شيء آخر»، في إفادة مبطنة بأنّ الغاز الروسي لن يؤدي دوراً في لعبة الكباش التي تدور حول القوقاز. ولكن بعض المراقبين يقرأون هذه الإشارات الإيجابية تجاه ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، التي سبقت قمة اليوم، وكأنها «إشارات خوف من عقوبات قد تنجح واشنطن في الدفع نحوها»، ما يمكن أن يضرّ بموسكو، وخصوصاً أن العودة إلى الحرب الباردة تعني في ما تعنيه «قطع نفس النمو التكنولوجي والمدني» الذي دخلت روسيا فيه منذ عقد ونيف.
ومن هنا، يرى البعض في باريس أنّ ما سماه البعض «هفوة كوشنير» حين تحدّث عن عقوبات قبل أن تصدر إشارة الإليزيه النافية، ما هو في الواقع إلا «تقاسم أدوار للضغط على موسكو». فموقف فرنسا الذي يعبّر عن «تناقضات دول الاتحاد»، كما رأت بعض المصادر الدبلوماسية، لا يعني أن باريس «راضية عن موسكو»؛ فقد أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية إيريك شوفاليه، لـ«الأخبار»، أن باريس ترى أنّ ما قامت وتقوم به روسيا هو «خرق لتعهّداتها الدولية». وردّاً على سؤال عن مسؤولية موسكو في ما تسرّبه مصادر دبلوماسية فرنسية عن «التطهير العرقي»، وما إذا كان «قد حان وقت توجيه اتهامات إلى روسيا» تحت بند «جرائم حرب» أو ما شابه، يجيب شوفاليه بأنّ هذا «من مهمات منظمات متخصّصة» من دون أن ينفي التهم الممكن توجيهها إلى روسيا.
كما علمت «الأخبار» من مصادر مقربة من الإليزيه، احتمال قدوم الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشافيلي اليوم إلى بروكسل. ورغم استبعاد هذه المصادر إمكان لقائه مع ساركوزي، إلا أن مجرد الكشف عن هذه الزيارة يأتي ضمن «رزمة الضغوط» على موسكو للتراجع عن تشدّدها لتجنب الوصول إلى نقاط اللاعودة، إلى جانب لعبة الشدّ واللين التي تدور بين ساركوزي وكوشنير.
ومن المؤكد أنّ قمة اليوم لن تستطيع إلا التلويح بعقوبات، وإلا فإن الدعوة إلى القمة تكون مثل «ضربة سيف في الماء»، رغم اعتراف الجميع بصعوبة تطبيقها في ظلّ ما سماه أكثر من دبلوماسي «ترابط مصالح» أنتجته العولمة من جهة، وارتباط اقتصاد أوروبا بالطاقة الروسية.
يدرك الجميع أنّ خيار العقوبات هو سيف ذو حدّين، ولكن هذا لا يمنع خبيراً فرنسياً من القول إنه إذا وقعت «الحرب الباردة، فإن روسيا ستكون الخاسرة على المدى الطويل»، إذ إن الغرب لن يتردّد حينها في دخول «عهد ما بعد الطاقة الكربونية» لتخفيف ارتباطه بمناطق التوتر التي تمدّه بالنفط والغاز، أكان ذلك في الشرق الأوسط أم في القوقاز.