عقوبة مؤجّلة تطبيقها رهن نتائج زيارة وفد «الترويكا» إلى موسكو بدا الاتحاد الأوروبي، أمس، رهينة بيد أعضائه الشرقيين، وفي مقدّمهم بولندا التي يبدو أنها نجحت في تأجيج تيار «الصقور» داخل قمة بروكسل التي خرجت بقرارين مفاجئين، يحدد أحدهما «العقاب» ويرهن الثاني تطبيقه بنتائج الحوار
وقف زعماء الدول الأوروبيّة الـ27 في قمّتهم الطارئة في مقرّهم البلجيكي، أمس، أمام خيارين في ما خصّ الموقف من روسيا، على خلفيّة الصراع في القوقاز. كان أمامهم إما «المغامرة» وفرض عقوبات اقتصاديّة على موسكو، عملاً بـ«نصيحة» «صقور» الاتحاد من الملحقين بواشنطن ومن المبغضين لروسيا، وفي مقدّمهم بولندا وبريطانيا، أو التذكّر أنّ البلد المعني ليس دولة صغيرة، بل «دبّ» يسعى لاستعادة هيبته، وأنّ بين يديه عناصر قوّة كافية لجعل الدول الأوروبية الغربية تمضي شتاءً قارساً في ما لو قرّر قطع إمدادات النفط عنها.
وبما أنّه كان أمام المجتمعين خياران صعبان دون شكّ، انقسموا إلى معسكرين. الأوّل تزعّمه نيكولا ساركوزي، الذي ترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد، تدعمه ألمانيا وإيطاليا خصوصاً، وفي المقلب الآخر وقف البولنديون مدعومين من رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون، متأثّرين بصرخات مليون جورجي تظاهروا في تبيليسي ضدّ «العدوان الروسي».
وأنتج «الكباش» الأوروبي الداخلي تسوية هجينة تضمّنت بندين رئيسيين، أحدهما يميل نحو تفضيل الحوار مع القيادة الروسية، وثانيهما يحمل ملامح العقوبات التي نادى بها وزير الخارجية الفرنسيّ برنار كوشنير قبل أيام، ما لبث أن سحبها الإليزيه من التداول.
فمن جهة قرّر الاتحاد إرجاء الاجتماعات المقبلة التي كانت مقررة للتفاوض على اتفاق شراكة معززة مع روسيا، وفق ما أعلنه رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو إثر انتهاء الاجتماع الأوروبي الطارئ، الذي انعقد بدعوة من ساركوزي للمرة الأولى منذ أزمة احتلال العراق في 2003.
أمّا الإجراء الحواري، فقد نصّ على إرسال وفد من «الترويكا» الأوروبية، في الثامن من الشهر الجاري، إلى موسكو، تليها تبيليسي. والوفد سيضمّ ساركوزي وباروسو والممثّل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد خافيير سولانا، في محاولة للتقدم نحو تسوية للنزاع، وخصوصاً توفير انسحاب كامل للقوات الروسية من جورجيا. زيارة توقّع الرئيس الفرنسي أن تكون «مصيرية لتحديد معالم العلاقات الأوروبية ــــ الروسية مستقبلاً».
أما القرار الثالث الذي اتّخذه القادة الأوروبيون، فقد نصّ على تنظيم مؤتمر دولي للمانحين، لجمع الأموال لإعادة إعمار جورجيا، «على أن يقدّر الخبراء الأوروبيون قريباً المبالغ المطلوبة في الأيام القليلة المقبلة»، على حدّ تعبير باروسو، الذي أوضح أنه «ما دام لم ينته انسحاب القوات (الروسية من جورجيا)، فإن كل الاجتماعات بشأن اتفاق الشراكة الاستراتيجية أُرجئت».
وكان مقرراً أن تُعقد جولة التفاوض الجديدة في 15 أيلول المقبل في مقرّ الاتحاد في بروكسل. ويهدف الاتفاق الجديد إلى تعزيز العلاقات بين الاتحاد وروسيا، اللذين سبق أن وقّعا اتفاق شراكة عام 1997 أساسه قضايا تتعلق بنوعيّة العلاقة الاقتصادية ــــ النفطيّة بين الطرفين.
إجراء «شبه عقابي» عاد ساركوزي وخفّف من وطأته عندما شدّد على رغبة الاتحاد الأوروبي في تنظيم «علاقة شراكة حقيقية مع روسيا تخدم مصالح الجميع، لكنها مفترَض أن تقوم على شريكين لا على طرف واحد».
والبارز أنّ وزير الخارجية البولندي، رادوسلاف سيكورسكي، قال قبل وقت قصير من موعد الاجتماع ما حرفيته «سيكون من الصعب على الأرجح مواصلة المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في شأن الشراكة الاستراتيجية، ما دامت القوات الروسية لا تزال في جورجيا».
وبالفعل، جاء القرار الأوروبي ليتبنّى بالتحديد الموقف البولندي. وجاء قرار تعليق المفاوضات غريباً بجميع الاعتبارات؛ فقبل ساعات من الاجتماع، قالت الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي إنّ قرار تعليق هذه المفاوضات «قد لا يُتخذ خلال القمة، بل خلال اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين، يومي الخميس والجمعة المقبلين»، في أفينيون (جنوب فرنسا).
أكثر من ذلك، فإنّ مسودّة القرار التي عُرضَت على الرؤساء رفضت موضوع إيقاف الحوار الاستراتيجي، وكانت تنصّ على تأجيل بتّه إلى 14 تشرين الثاني المقبل، موعد انعقاد القمة الأوروبية ــــ الروسيّة.
وجاء في المسوّدة «نتوقع من روسيا تصرفاً مسؤولاً تحترم بموجبه تعهداتها، وسيبقى الاتحاد متيقّظاً». وأضاف النص أن «الاتحاد الأوروبي سيدرس بعناية وعمق الوضع وأبعاد العلاقة بينه وبين روسيا»، لافتاً إلى أن الدول الأوروبية «مقتنعة بأنّ من مصلحة روسيا نفسها عدم عزل نفسها عن أوروبا». وتابع أنّ «هذا التقويم سيجري في ضوء القمة المقبلة (بين الاتحاد وروسيا) المقررة في 14 تشرين الثاني، في مدينة نيس الفرنسية، والتي قد تؤدي، بحسب تطورات الوضع وخصوصاً تطبيق موسكو لكل تعهداتها الواردة في خطة السلام (في جورجيا)، إلى اتخاذ قرارات في شأن مواصلة المفاوضات المتعلقة بمستقبل العلاقات بين الاتحاد وروسيا في مختلف الميادين».
ولم تنفع مناشدات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتحاد الأوروبي ألا يوقف حواره مع روسيا للحؤول دون اتخاذ القرار.
ويبقى الرهان على الردّ الروسي، الذي أوضح رئيس الوزراء فلاديمير بوتين ملامحه، عندما كشف عن أن موارد بلاده من الطاقة ستصب في الشرق الأقصى إذا ما أصرّ القادة الأوروبيون على معاقبة موسكو لغزوها جورجيا.
وأشارت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية، أمس، إلى أن تحذير بوتين هو رسالة إلى الزعماء الأوروبيين، ويُعدّ بمثابة إنذار مفاده أن موسكو «تعمل على تأسيس قاعدة بديلة من الزبائن في الشرق الأقصى».
تحذير جاء مشابهاً لما سبق وورد على لسان الرئيس ديميتري مدفيديف من أن موسكو يمكنها أيضاً أن تفرض عقوبات، بقوله لمحطات التلفزة الروسية «لسنا من أنصار العقوبات. لكن إذا لزم الأمر يمكننا فرضها».
(الأخبار، أ ف ب، رويترز)