لا يمكن فصل الانفتاح السياسي الأميركي تجاه ليبيا، عن السباق المحموم بين واشنطن والعواصم الأوروبية على المصالح الاقتصادية والنفطية في أفريقيا
معمر عطوي
دلالات عديدة تحملها زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى ليبيا اليوم، ولا سيما أنها تأتي بعد أقلّ من شهرين على زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى طرابلس الغرب، وعقب أيام من زيارة مماثلة لرئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني. زيارة تتوّج مسيرة تطبيع العلاقات بين البلدين بعد نحو 40 عاماً من العداء، وصفها المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية شون ماكورماك بأنها «مهمة وتاريخية.. تفتح فصلاً جديداً من العلاقات الثنائية الأميركية ــــ الليبية». لعلّ تاريخيتها تتمثّل في أنها الأولى من نوعها منذ عام 1953، حين قام وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالس (في عهد الرئيس دوايت إيزنهاور) بزيارة طرابلس، حيث التقى الملك السابق محمد إدريس السنوسي.
ومنذ ثورة «الفاتح من سبتمبر» في عام 1969، تاريخ سيطرة العقيد معمر القذافي على السلطة في ليبيا، بدأت صفحة جديدة من العلاقات الضدّية بين طرابلس «الثورية» وواشنطن «الإمبريالية». علاقات وصلت إلى حد القطيعة الكاملة في عام 1981، إثر اتّهام الولايات المتحدة لليبيا بدعم الإرهاب.
في الواقع، لم تشهد العلاقات بين البلدين أي تطورات إيجابية منذ السنوات الأولى للثورة التي أثارت سياساتها خوف الولايات المتحدة وسخطها تجاه شعارات رأت أنها تصبّ في دعم الإرهاب ورعايته، ولا سيما أن هذه السياسات كانت تتضمن العمل لتحقيق الوحدة العربية، وإجلاء القواعد البريطانية والأميركية (1970)، وتأميم شركات النفط ( 1973)، ودعم حركات التحرر في العالم ومساعدتها.
لذلك، اعتمدت واشنطن تجاه الثورة الحديثة في شمال أفريقيا خطوات عديدة من شأنها استفزاز نظام القذافي، مثل رفضها سنة 1972 إجراء حوار وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة على مستوى السفراء.
وذهبت الإدارة الأميركية أبعد من ذلك، حين انتهكت إحدى طائراتها في صيف عام 1973 المجال الجوي أثناء المناورات التي كان يجريها الأسطول السادس قبالة الساحل الليبي. مناورات تكررت في 1978 وفي عام 1991، بينما حاولت طائرات تابعة للأسطول السادس في 27/ 6/ 1980 إسقاط الطائرة المقلّة للعقيد القذافي من دون أن تنجح في ذلك.
وفي عام 1981، قامت الطائرات الأميركية باختراق المجال الجوي الليبي وأسقطت طائرتي استطلاع ليبيّتين فوق خليج سرت. وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد أدرجت اسم ليبيا على قائمة أعداء الولايات المتحدة سنة 1977.
كذلك أعلنت وزارة الخارجية الأميركية في أول عام 1978 أن ليبيا في مقدّمة الدول التي تعتزم الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات ضدها بسبب موقفها من القضية الفلسطينية.
وازدادت حدة التوتر لتدخل المواجهة المباشرة في 24 و25 آذار 1986، حين شنّت الولايات المتحدة عدواناً بحرياً وجوّياً على أهداف مدنية وعسكرية في خليج سرت، وأغرقت عدداً من الزوارق الليبية، وتبعه هجوم جوي واسع في 15/ 4/ 1986 على مدينتي طرابلس وبنغازي، راح ضحيته المئات من المدنيين الأبرياء، من بينهم ابنة القذافي بالتبنّي.
ووصلت القضية بين واشنطن وليبيا إلى مجلس الأمن، حيث أصدر في عام 1993 القرار (883) الداعي إلى فرض حظر نفطي على طرابلس.
رغم كل هذه التطورات، دخلت العلاقات الليبية الأميركية في عام 2003 مرحلة جديدة، كانت طرابلس هي صاحبة المبادرة فيها، عبر اتخاذها إجراءات استباقيّة لدرء خطر واشنطن التي كانت قد اجتاحت العراق. واستؤنفت العلاقات بين البلدين في عام 2004 بعد إعلان الزعيم الليبي تخلّي بلاده عن برنامج لاقتناء أسلحة دمار شامل.
غير أن هذه المبادرة لم تدخل حيّز التنفيذ إلاّ في عام 2006، حين شُطبت ليبيا عن اللائحة الأميركية للدول المتهمة بدعم الإرهاب، وسمّى كلّ بلد سفيراً له في البلد الآخر. علاقات لم تُطبّع تماماً، إذ اختلقت الولايات المتحدة ذرائع عديدة لتأجيل خطوات التطبيع، بدءاً بالعقبة المتمثّلة بالتعويضات المتفق عليها مع طرابلس لضحايا اعتداءي لوكربي وبرلين.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أهمية دور مزاجية الزعيم الليبي الذي اشتهر بمواقفه المتذبذبة بين التشدّد والانتقاد من جهة، واللين والانفتاح من جهة أخرى. العقيد «المزاجي» الذي وصل إلى مرحلة تخلّى فيها عن طموحاته في دعم تحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين ودعا إلى أفضل العلاقات مع الغرب، كان له موقف مثير للجدل، الاثنين الماضي، حين قال إن «ليبيا لا تطمح إلى أن تصبح صديقة للولايات المتحدة، بل تريد فقط أن تتركها واشنطن وشأنها، كما تترك ليبيا الولايات المتحدة وشأنها».