أرنست خوريعندما تُقفَل أبواب الدبلوماسية والسياسة، لا بدّ من إيجاد كوّة في مكان ما. الرياضة المعولَمة مثّلت تاريخياً مدخلاً رئيسياً لإزالة عداوات وتكوين تحالفات. هكذا حصل في عام 1972 عندما افتتحت مباراة في كرة الطاولة (بينغ بونغ) بين المنتخبين الصيني والأميركي.
اليوم، تعود «دبلوماسيّة الرياضة» لكن عبر كرة القدم بين تركيا و«آخر أعدائها» أرمينيا، بعد إنهاء العداوات مع إيران وسوريا واليونان وأكراد العراق.
عبد الله غول سيمضي اليوم 4 ساعات في يريفان. لم تعد القضيّة مزحة سمجة. لكن ما الذي دفع به إلى قبول دعوة نظيره سيرج سركيسيان لحضور المبارة التي ستجمع بين منتخبيهما في العاصمة الأرمينية؟ أهي رغبة منه بمواصلة ما بدأه رئيس حكومته، رجب طيب أردوغان، عندما اقترح في عام 2005 تأليف لجنة مشتركة لإعادة النظر بالوقائع التاريخية بشأن «الإبادة الأرمنية» (وهو ما رفضته يريفان حينها)؟ أم ترجمة لنيّة غول القديمة بإزالة جميع العداوات لتركيا؟ أم هو منتدى الاستقرار في القوقاز الذي أطلقته حكومته؟ أم إنّ الوقت حان لحلّ أزمة ناغورني قرباخ؟
على الأرجح هو شيء من كل ذلك. فالجرأة لا تنقص غول لاتخاذ قرار تاريخي بهذا الحجم. كذلك، فإنّ وضع حزبه شعبياً أكثر من ممتاز. كل شيء يجعل من الزيارة «أكثر من تاريخية واستثنائية». بدءاً من توقيتها، إضافة إلى كونها الأولى لرئيس تركي إلى أرمينيا، وصولاً إلى طريقة توجيه الدعوة.
ومن قال إنّ مقالاً صحافياً لا يستطيع أن يترك أثراً عظيماً في تاريخ علاقات الدول؟ فسركيسيان وجّه الدعوة الرياضية إلى غول بطريقة غريبة: مقال في تموز الماضي في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركيّة، وجاءه الردّ الإيجابي أكثر كلاسيكيّة عبر بيان رئاسي من قصر شنقايا.
ينبري غول وسركيسيان اليوم لمحاولة حلحلة ما يمكن حلّه في الملفّين اللذين أعاقا أي علاقة بين البلدين؛ الإبادة الأرمنية وإقليم ناغورني قرباخ.
تاريخياً، نجح اللوبي الأرمني في العالم، في إقناع برلمانات 12 دولة (أبرزها فرنسا وبريطانيا وسويسرا والفاتيكان) بإقرار قانون يصف أحداث الحرب العالمية الأولى بأنها «إبادة تركيّة» ارتُكبَت بحقّهم. لكن للموضوع خلفيات سياسية واضحة تستعملها الدول الأجنبية كورقة ضغط ضدّ تركيا. كان يمكن لجميع الدول الأوروبية أن تسنّ قوانينها عن الإبادة لولا القيمة المركزية التي كانت مُعطاة لتركيا الأطلسية خلال مرحلة الحرب الباردة ضدّ «الخطر الشيوعي».
حتّى أبرز اسم في تاريخ الحركة التركية ـــ الأرمنية الساعية لحسم موضوع «الإبادة»، هرانت دينك الذي اغتالته عصابات «أرغينيكون» العام الماضي، اعترف بهذا الواقع عندما قال إن «الدول الأوروبية أدّت دوراً أساسياً في أحداث 1915، واليوم ينظرون إلى الأرمن على أنهم استثمار سياسي».
أمّا الخطاب الرسمي التركي فبقي يُختَصَر بعبارة ذهبية «أحداث 1915 مؤسفة، تحصل خلال أي حرب أجّجها تدخّل روسيا ودعم المتمرّدين في شرق الأناضول». وحتى اليوم، لا يزال اعتراف أي تركي بحصول «إبادة» يعرضه لأخطر التهديدات الجسدية والقانونيّة والمعنويّة.
ويقول البعض إنّ فرصة تاريخية سنحت أمام الأرمن والأتراك لطي صفحة التاريخ السوداء، ولكنها ما لبثت أن أُجهضت سريعاً. حصل ذلك عند انفراط عقد الاتحاد السوفياتي وولادة 15 دولة جديدة، كانت أرمينيا إحداها في 23 آب 1991.
ومسارعة أنقرة للاعتراف بالدولة الوليدة (كانت واحدة من أول 5 دول تعترف بها)، عبرت عن رغبة بفتح «صفحة جديدة». لكن الاعتراف لم يترافق مع فتح الحدود ولا تمثيل دبلوماسي. فقضيّة استقلال إقليم ناغورني قرباخ حالت دون ذلك، ولا سيما بعد وقوف تركيا إلى جانب باكو خلال الحرب الأذرية ـــ الأرمينية عام 1991.
بيان الرئاسة التركيّة أوضح أنّ توجّه غول اليوم إلى ملعب هرزدان في يريفان سيكون «وسيلة فعّالة لتحضير أرضيّة صالحة ليفهم الشعبان بعضهما بعضاً أكثر ولإزالة جميع الحواجز الباقية بين دولتينا».
4 مواضيع ستكون على جدول أعمال اجتماع الرئيسين الذي لن يدوم أكثر من ساعتين قبل المباراة: منتدى القوقاز، وأزمة ناغوروني قرباخ وتأليف فريق موحّد من المؤرخين والأكاديميين الأتراك والأرمن لإعادة بحث «ما جرى في عام 1915 في الأناضول». وأخيراً، بحث الخطوط العريضة لإعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين.
ستكون يريفان اليوم قلعة أمنيّة لحماية الزائر التركي. وفي الملعب، سيجري «سجن» غول داخل قفص زجاجي كبير مضاد للرصاص للحيلولة دون تعرّضه لأي أذى. وسيواكبه في زيارته «جيش» من الصحافيين الأجانب وفرق أمنه الشخصي وفريق من الدبلوماسيين. الآمال من الزيارة إطارها واسع، رغم صراخ «صقور» الأرمن والأتراك.