يبدو أن التحوّلات التي يشهدها الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني تؤكد إعادة سيطرة تيّار المستشار السابق غيرهارد شرودر «الوسطي» على قيادته ومستقبله
برلين ــ غسان أبو حمد
يشهد الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني تحوّلات على صعيد الهيكلية والقيادة، بدءاً من اعتماد وزير الخارجية الحالي، فرانك فالتر شتاينماير، مرشّحاً مقبلاً لموقع المستشارية الألمانية، وصولاً إلى استقالة رئيس الحزب كورت بك وعودة سلفه فرانز مونترفيرينغ إلى دفة القيادة.
هذه التحوّلات تؤكد عودة التيار الوسطي بقيادة المستشار السابق غيرهارد شرودر، في «انقلاب» حزبي داخلي ارتدى «زيّاً ديموقراطياً مميزاً». وأكدت وسائل الإعلام المحليّة تسمية الحزب لوزير الخارجية مرشّحاً مقبلاً لمنصب المستشارية في الانتخابات البرلمانية المقرّرة في خريف عام 2009. لا بل خرجت بعض المجلات الأسبوعية، وعليها صورة الوزير «شتاينماير مستشاراً لألمانيا».
لكن ذلك بدا منسوباً إلى «مصادر حزبية موثوقة» من دون أي بيان حزبي رسمي يحسم أي التباس.
ولم تمضِ ساعات قليلة حتى قدّم رئيس الحزب استقالته من منصبه، مع صيحته أمام من يستوضحه عن أسبابها: «كفى تجاوزات لموقعي. الاستقالة لا علاقة لها باختيار شتاينماير. لكن أنا رئيس الحزب وصاحب إعلان هذا الخبر».
إلى هنا يدخل الحدث المفاجئ في إطار التجاوزات الحزبية الداخلية، وبالتالي، في إطار الخلاف على الصلاحيات. لكن إطلالة مونتيرفيرينغ فجأة على مسرح الحدث وموافقته (أيضاً عبر تسريبات مصادر صحافية) على تسلّم رئاسة الحزب مجدداً، تكشف ـــــ بما ترمز إليه مواقع القيادات الحزبية ونهجها، المؤيدة والرافضة للتغيير في الهرم الرئاسي ـــــ أن الحزب دخل نهجاً سياسياً وسطياً بقيادة أنصار شرودر، وأن الحدث الداخلي هو انقلابي، وبالتالي ضربة إلى التيار اليساري الذي كان يقوى ويشتد بفعل فشل «الائتلاف الحاكم» في معالجة الملفّات الداخلية والملفات الخارجية.
«الجنوح اليساري» داخل الحزب برز واضحاً في النقاشات الحزبية الحادة التي شهدها المؤتمر الحزبي الأخير (تشرين الأول 2007) في مدينة «هامبورغ»، حيث برزت قيادات حزبية شابة، أبرزها نائبة الرئيس أندريا نيلس، التي رأت أن خطّ الائتلاف والتعاون مع الحزب المسيحي الديموقراطي اليميني والمستشارة الحالية أنجيلا ميركل، أفقد الحزب الاشتراكي هويته وكشف عجزه عن معالجة الأوضاع الاقتصادية الداخلية، ووقوعه بالتالي تحت هيمنة الشركات الكبرى، وبالتالي الانجرار وراء مصالح الدول الكبرى إلى حدود «عسكرة» ألمانيا في معالجتها لملفّات السياسة الخارجية وانتشار قواتها العسكرية في مناطق تعيش احتراباً داخلياً، ولو بصفة دولية رادعة. وهذا يعني في صريح العبارة. التخلّي عن نهج شرودر «الوسطي» داخل الحزب. بل هو تخلّ عن الإصلاحات الداخلية التي طرحها شرودر إبان حكمه، المعروفة باسم «جدول عمل عام 2010» وهي مجموعة إصلاحات اقتصادية، تراعي بالدرجة الأولى مصالح الطبقة المتوسطة، مع ارتفاع نسبة الرسوم المفروضة على أرباح الشركات الكبرى.
التيار «اليساري» هذا بدأ تناميه تدريجاً داخل القواعد الحزبية، التي بدأت تطالب بتغييرات سياسية واقتصادية جذرية في نهج الحزب، لا بل بدأت التخطيط لتحالفات سياسية جديدة تفكّ ارتباطات الحزب التي تكبله مع الاتحاد المسيحي، وتربطه بحزب «الخضر». وحتى إلى حزب اليسار الجديد، بقيادة أوسكار لافونتين، إذا وجب الأمر.
إذاً، كان لا بدّ من حسم الأمر بسرعة وتحديد هوية واضحة للاشتراكيين الألمان، تحافظ على «عدالة اجتماعية مرهونة برقابة حكومية، أي مشروع تسوية، تربط حرية الشركات ونشاطها برفع نسب الضرائب والرسوم الاجتماعية، وهذا ما كان ينادي به «جدول أعمال عام 2010» الذي رسمه المستشار السابق.
وفي أول ردّة فعل على ما وصف بزلزال حزبي داخلي، فإن تعليقات المحللين السياسيين الألمان، ما زالت الخطوة «الانقلابية الداخلية» لمصلحة شتاينماير، الذي بدأ أخيراً في معالجة الأمور الداخلية بنهج المستشار السابق، وهو نهج وسطي، يحمل في عنوانه العريض، قضية المساواة في الأجور بين الرجل والمرأة، مع تخفيف الأعباء المالية والضريبية على الطبقات الكادحة والمتوسطة وفرض نظام ضريبي جديد على الأغنياء وأصحاب الدخل المرتفع لتمويل المشاريع الاجتماعية الكبيرة.
كذلك يسعى برنامج المستشار «المرتقب» لحكم ألمانيا، إلى تطويق حزب «الخضر» واليسار التقليدي، عبر الإهتمام الجدي بسياسة الطاقة والمناخ وتوفير المزيد من فرص العمل، تحت عنوان «خفض نفقات الطاقة حتى عام 2020 بنحو 20 مليار يورو».