غرقت الصين في الميداليات الذهبية خلال الألعاب الأولمبية، بينما كانت روسيا تخوض حرباً ضد جورجيا. حرب انتهت بإعلان استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. تريّثت بكين وصمتت طويلاً قبل أن تكتفي بـ«التفهّم»، حفاظاً منها على مسافة واحدة من الجميع
ربى أبو عمو
ليل الثامن من آب الماضي، خرقت المفرقعات سماء بكين خلال افتتاح الألعاب الأولمبية، بينما كانت جورجيا تشنّ هجومها على أوسيتيا الجنوبية. حدث رياضي في مقابل حرب أشعلت ذاكرة القوقاز. حدثان ألهبا الحديث عن قوّتين؛ القوّة الصينية الناعمة مقابل الروسية الصلبة.
مفارقة جعلت الصين تظهر أمام العالم، هي التي حصدت المركز الأول في الألعاب الأولمبية، على أنها الدولة العظمى القادرة على جذب الجميع بصورة ديموقراطية، من خلال الرياضة.
أما روسيا، التي خاضت حرباً ضد جورجيا، وإن كانت في سياق الدفاع عن النفس، فأظهرتها الدعاية الغربية أنها تميل إلى الخيار العسكري في سياساتها الخارجية، رغم تأكيد الخبير في الشؤون الروسية، اسكندر كفوري، لـ«الأخبار»، أن «هذا كان الخيار الوحيد أمام موسكو، التي كانت قد استبعدت مجرد احتمال أن يلجأ الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي إلى الهجوم على أوسيتيا».
صورة لا شكّ استغلّتها الصين، خلال انعقاد قمة منظمة «شنغهاي» قبل نحو أسبوعين، حين اكتفت بدعمها للدور الفعّال الذي تقوم به روسيا في حل النزاع مع جورجيا، مع تفهّمها للموقف الروسي من إعلان استقلال أوسيتيا وأبخازيا، من دون أن تذهب إلى حد الاعتراف بهما، وهو الأمر الذي كانت تدركه روسيا، بحسب كفوري، الذي يضيف إن «الصين ليست نيكاراغوا، فهي أكبر من أن تأخذ موقفاً ينحاز إلى أحد الأطراف».
بكين، وهي حليفة غير مباشرة لروسيا، لم تعلن تأييدها لموسكو، رغم تحالفهما ضمن منظمة شنغهاي، والعلاقة الاقتصادية المتطورة بينهما، بعدما قفز حجم التجارة الثنائية من 10.67 مليار دولار عام 2000، إلى 33.39 مليار دولار عام 2006، و48.17 مليار دولار في العام الماضي، وفقاً لإحصاءات وزارة التجارة الصينية.
لماذا لم تأخذ الصين موقفاً حازماً يظهر تأييداً كاملاً لروسيا؟ كفوري يلوم موسكو، من دون أن يرى أن الموقف الصيني يمثّل تخاذلاً، بل يصنّفة في خانة الأمر الطبيعي. ويقول «بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وتسلّم بوريس يلتسن رئاسة البلاد، لم تحافظ موسكو على صداقاتها مع الكثير من البلدان، منها فيتنام التي لم تكن لتنتصر على الولايات المتحدة لولا دعم الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى كوبا وروسيا البيضاء وغيرها من الدول الأفريقية. عدم الوفاء هذا دفع الصين إلى أن تكون أكثر تريثاً في علاقاتها ومواقفها حيال روسيا. وما تريد الأخيرة الحصول عليه، عادة ما يجري داخل الأروقة السياسية الضيقة». ويضيف إن «روسيا كانت تساوم مع الأميركيين على حساب أصدقائها. فحين كانت روسيا البيضاء تواجه واشنطن، أكملت روسيا الضغط من خلال تعليق تصدير الغاز إليها بحجة عدم وفائها بأموالها».
إلّا أنه في العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، يذوب هذا السبب أمام رغبة الصين الصاعدة في الحفاظ على علاقتها مع الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، وخصوصاً في الحقل الاقتصادي والاستثمارات الخارجية. الأمر نفسه ينعكس على العلاقة بين بكين وموسكو، يرافقه عدد من الملفات الأخرى، مثل الأهمية الاستراتيجية لبحر قزوين، والملف الإيراني لجهة موقع هذا الدولة، ومحاذاة طهران لعدد من الدول الغنية بالثروات النفطية.
في المقابل، وبعد حلّ مشكلة الحدود بين الصين وروسيا، باتت موسكو تواجه أمراً آخر، يتمثل في تمدّد العمالة الصينية في المناطق المحاذية لحدودها. ويوضح كفوري «يدخل العمال بصورة غير شرعية، من دون إقامات. وبطبيعة الحال، تمثّل هذه القوة العاملة الصينية الهائلة تهديداً لروسيا، وخصوصاً أنهم يعمدون إلى تصيّد الحيوانات النادرة، ما قد يؤدي إلى انقراضها». مشكلة أخرى، لا تخرج عن كونها هامشية.
خلال القرن الماضي، اتفق الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماو تسي تونغ، كل على حدة، على أن الاتحاد السوفياتي، يمثّل التهديد الأعظم لكليهما. وكانت قد ساءت العلاقة بين الصين والكرملين، بعدما اتخذت موسكو قرارها بالتعايش السلمي مع الولايات المتحدة، فهاجمها ماو معلناً أنه يخدم بإخلاص فكر لينين الماركسي الذي يدعو إلى تدمير الرأسماليين.
هذه الأيديولوجية الصينية ـ الروسية التي كانت سائدة آنذاك، حلّت مكانها براغماتية روسية في علاقاتها الخارجية. وكذلك بالنسبة إلى الصين، التي تعمد إلى أن تكون على مسافة واحدة من الجميع رغم قربها من موسكو.