باريس ــ بسّام الطيارةهل انتهى شهر عسل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مع الحظّ؟ السؤال يطرح مع إعلان نتائج انتخابات مجلس الشيوخ، التي سجّلت الخسارة الثالثة للأكثرية الرئاسية بعد الانتخابات البلدية وانتخابات المقاطعات. الرابح الأكبر في هذه الانتخابات الجزئية هو الحزب الاشتراكي الذي سجّل ٢٣ مقعداً جديداً، بينما استطاع حزب الرئيس «تجمّع الأكثرية الشعبية» حصر الخسارة بعشرة مقاعد فقط.
انتخابات مجلس الشيوخ إشارة ضمن إشارات كثيرة إلى ارتباك مسيرة ساركوزي في خط القطيعة والتغيير الذي وضعه لنفسه ولفرنسا. مؤشرات كثيرة تدلّ على أن أفق الأيام الخريفية المقبلة ملبّد بغيوم الأزمات السوداء. ويتفق المراقبون على أن «خمس إشارات حمراء» تنتظر ساركوزي عند المنعطف الاقتصادي: (١) تراجع القوة الشرائية المتواصل. (٢) زيادة حدّة أزمة البطالة. (٣) عدم إنهاء الميزانية. (٤) البحث المضني عن تمويل لسدّ «ثقب الضمان الاجتماعي» المترنّح. (٥) رياح الأزمة المالية تهبّ على المصارف الفرنسية التي كانت تؤدي دائماً «دور مضخّة النقد» في الاقتصاد الفرنسي قبل أن تفعل العولمة فعلتها لتبلغ خسائر أكبر أربعة مصارف فرنسية فقط ما يزيد على ٢٠ مليار يورو، أي نحو ثلاثين مليار دولار من دون الدخول في تفاصيل المصارف الأخرى.
وعد ساركوزي خلال الانتخابات برفع القوة الشرائية للفرنسيين فجاءت نسبة التضخم، التي ترتفع سنوياً، 3.2 في المئة إلى جانب تراجع مؤشرات النمو وارتفاع أسعار المواد الأولية والطاقة، ما قاد إلى تجميد رواتب العمالة لتقضي على أي أمل برفع القدرة الشرائية.
وبعد سنوات من تراجع البطالة في عهد حكومة دومينيك دوفيلبان، يرى ساركوزي عهده وكأنه عهد ارتفاع البطالة، إذ بلغ عدد العاطلين من العمل هذه السنة مليونين و٢٧ ألفاً. وهو لا يستطيع «الاعتماد على أصدقائه» أرباب العمل، فكثير من الشركات الكبرى تكبح عمليات التوظيف بسبب الركود، بينما بعضها يتأهب لإيقاف الآلاف عن العمل (مثل «رينو» التي أعلنت نيتها تسريح ٤ آلاف عامل في آجال قصيرة)، وبالتالي لا يمكن لساركوزي أن يتوقع خفض نسبة البطالة إلى ٥ في المئة بحلول ٢٠١٢. وارتفاع نسب البطالة يؤثر مباشرة على صندوق الضمان، الذي يؤمن تعويضات العمالة فيزيد من خلل ميزانيته وينعكس زيادة في الضرائب المباشرة وغير المباشرة (بلغت نسبتها هذه السنة ٤٣ في المئة من إجمالي الناتج المحلي) ويدفع بالاقتصاد نحو حلقة مفرغة تدفع أرباب العمل إلى الإحجام عن التوظيف.
ويفسر هذا تردد الحكومة في تحديد يوم لمناقشة ميزانية ٢٠٠٩ وتأجيله مرتين في ظل الضرورات القصوى التي تحكم العجز وتراجع الدخل الضريبي المرتبط بالنمو المتراجع وبانحسار مداخيل الشركات والأفراد. ويشير أكثر من خبير إلى أن حكومة فرانسوا فيون لن تستطيع الإبقاء على عجز بحدود 2.5 في المئة (بلغت حسب آخر أرقام معلنة 3.3 في المئة). كما يرى آخرون أن الميزانية الجديدة ستكون قاسية جداً من ناحية حصر النفقات وإلغاء عدد من المشاريع الكبرى، وأن هذا الانكماش سيأتي ليزيد من حدة قرارات سابقة في مجالات عديدة مثل تقليص ميرانيات المدارس الرسمية والسفارات أو الحد من ميزانيات بعض الإدارات وإلغاء عدد كبير من ثكن الجيش وخفض عديد الجنود نحو ٥٤ ألف عنصر وخفض التجهيزات بحجة تحديثها.
ويدرك ساركوزي قبل غيره أن كل هذه الإجراءات لن تساعد على تخفيف حدّة «الخريف العمالي الذي ينتظره»؛ فالسابع من الشهر المقبل هو يوم عمالي إضرابي تشارك فيه النقابات الست الكبرى. وقد صرح الأمين العام للاتحاد العمالي العام (سي جي تي)، برنار تيبو، بأن هذا اليوم هو يوم «إظهار عضلات العمال»، مبرراً ذلك بأن الحديث مع الرئيس أو الوزراء «لا يفيد».
كذلك فإن الحديث عن خفض النفقات، وخصوصاً في القوات المسلحة، يلاقي معارضة حتى في صفوف اليمين الداعم لساكن الإليزيه في ظل الحديث عن «الحرب الأفغانية» ومناقشة مجلس النواب لمشاركة فرنسا في هذه الحرب بعد مصرع عشرة جنود والحديث عن «النقص في تجهيز الجيش الفرنسي». ومهما تكن نتيجة «تصويت النواب»، سحب أم إبقاء الجيش الفرنسي في أفغانستان، فإن هذا التصويت، الذي يأتي بناءً على قوانين تشريعية سنّها ساركوزي نفسه، يشير إلى أن «القطيعة الحقيقية» تداهمه ويمكنها أن تفرض عليه سياسة قد تخالف طروحاته، أكان ذلك في مشاركة الحلف الأطلسي في مغامراته أم في التراجع عن تحرير كامل قيود العلاقات بين العمال وأرباب العمل وإقفال الباب أمام جرعات إضافية من الليبرالية، وخصوصاً أن «بريق الليبرالية الأميركية بدأ يتآكل ويحرق الاقتصاد الحر»، فيما تنطلق واشنطن في خطوات واسعة مستمدة من «الفلسفة الفرنسية الكولبرتية» التي تقضي بتدخل الدولة لضبط إيقاع الاقتصاد الوطني وردع الليبرالية المتوحشة.