أرنست خوريوقفت تركيا خلال حرب الأيام الخمسة بين روسيا وجورجيا، كمن عليه الاختيار بين أحد أبويْه المطلَّقين؛ فالتحدّي الخارجي الذي واجهته أنقرة في الأيام الماضية، كان الأصعب منذ احتلال العراق. امتحان جديد كان على حكومة «العدالة والتنمية» النجاح فيه، ويبدو أنها نجحت فعلاً.
قراءة سريعة لما تحمله خريطة المنطقة والتطورات الاستراتيجية التي عرفتها علاقات تركيا مع كل من محور الأطلسي ـــــ أوروبا ـــــ جورجيا، في مقابل علاقاتها الروسية المنتعشة منذ سنوات، تعبّر عن الهمّ التركي بالمحافظة على علاقات متوازنة وجيّدة مع الطرفين «الأطلسي» والروسي:
ـــــ أنابيب النفط (خطّا باكو ـــــ تبليسي ـــــ جيهان وباكو ـــــ تبليسي ـــــ أرضروم) التي تنقل الطاقة من منابعها في وسط آسيا (السوفياتي السابق) إلى قلب أوروبا وأميركا، لا قيمة لها من دون مرافئ جيهان وأرضروم التركيين. وأيّ استهداف لهذه الخطوط التي تمكّن «خصوم» روسيا من إنشائها لفكّ تبعيتهم النفطية عن موسكو وطهران، يفقد تركيا دورها المركزي في قلب الحلف الأطلسي سياسياً وكذلك كوسيط نفطي يؤمّن نقله السريع الى الغرب الأطلسي.
ـــــ «تركيا الجديدة» قامت منذ 6 سنوات على استعادة دور مميز مع أعداء الأمس، وروسيا أبرزهم. استطاع رجب طيب أردوغان وفريقه نسج أفضل العلاقات مع موسكو ـــــ بوتين، حتى إنّ التبادل التجاري السنوي بين بلديهما يصل الى 28 مليار دولار سنوياً، لتكون روسيا الشريك التجاري الأول لأنقرة. أما التبادل التجاري مع جورجيا، فلا يزيد على 945 مليون دولار سنوياً.
ومنذ فجر يوم الجمعة الماضي، لحظة ارتكب الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي «الخطأ التاريخي» وأمر باجتياح أوسيتيا الجنوبية، شعر المسؤولون الأتراك بأنّ دورهم الإقليمي والعالمي مهدَّد، إلى درجة أنّ دعوات المحللين لحكام أنقرة انهالت منذ اليوم الأول لحثّهم على ضرورة المبادرة وتأدية دور «الوسيط» بين الطرفين المتحاربين قرب حدودهم، على نسق ما يفعلونه حالياً بين إسرائيل وسوريا.
خلال الاستنفار الدبلوماسي التركي زمن الحرب الأخيرة، لم يُسجّل الأتراك على أنفسهم أي إشارة إلى انحيازهم إلى أي طرف ولم يخرج من أفواههم أيّ موقف «نافر». تمنّوا أن يسجّلوا في رصيدهم نقطة تجعل منهم وسيطاً ينهي الحرب، لكنهم كانوا مدركين أنّ القضيّة «أكبر منهم». فهموا أن عليهم المحافظة على حياديتهم ليتمكّنوا من تأدية دور العرّاب لتسوية جماعيّة للأزمة بما أنّ وقف إطلاق النار لن ينهي الصراع نهائياً وأنّ العلاج يجب أن يكون على مستوى عالمي.
«التحالف من أجل القوقاز» أو «ميثاق القوقاز» مشروع أطلقه رجب طيب أردوغان قبل يومين، بعدما عرضه على الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ومن المتوقّع أن يبصر النور حالما تهدأ النفوس وتبرد المدافع وتصبح الأوضاع والنفوس مهيّأة للتفاوض. ينصّ الاقتراح على إنشاء منظّمة دولية همّها الأساس السلم الاقليمي من بوّابة الحفاظ على الأمن النفطي، تكون برعاية الأمم المتحدة، وشبيهة بمنظّمة دول بحر قزوين. فكرة أردوغان هي أن تضمّ المنظّمة الجديدة دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة وتركيا وآخرين من الفاعلين في القوقاز، هدفها تنسيق المصالح المشتركة وعقد قمم دورية للاتفاق على سياسات موحّدة على الأصعدة الأمنية والنفطيّة.
اقتراح تركي لا شك في أنه سيلقى قبولاً سريعاً من عواصم الحلف الأطلسي. غير أنّ الوقت لا يزال مبكّراً لمعرفة طبيعة الردّ الروسي، إذ إنّ موسكو «لم ولن تقف يوماً كمجرد متفرّج على ما يحصل في منطقة البحر الأسود وجوارها» على حدّ تعبير الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف أول من أمس.