تتّسم الأزمة الروسية ــ الجورجية بالتعقيد والتشابك الإقليمي والدولي، ولا سيما أن كل طرف من الأطراف لديه رؤى وأهداف وأبعاد تتعلّق بخدمة مصالحه، التي يرى أنها ستكون على حسابه
واشنطن ــ محمد سعيد
يرى محلّلون إقليميون أن جورجيا ارتكبت «خطأً استراتيجياً» لدى محاولتها السيطرة سريعاً على أوسيتيا الجنوبية، وبالنتيجة ربما تكون السلطات الجورجية قد فقدت الإقليم إلى الأبد.
وفجّر الهجوم الجورجي على أوسيتيا الجنوبية العديد من التأويلات، التي ربط بعضها هذه الخطوة التصعيدية «بهمس خارجي» يسعى لجس النبض الروسي في ظل الرئيس الجديد ديمتري مدفيديف والحد من تمدّد موسكو في منطقة القوقاز، فيما فسره آخرون بأنه خطوة غير محسوبة وسط مخاوف من توسع الصراع إلى أبعد من أوسيتيا الجنوبية.
ويرى المراقبون أنه يمكن تفسير الخطوة الجورجية في ظل اعتبارين، أولهما: أن الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي أخطأ في تقديراته بشكل «أحمق» ظناً منه بأنه بمجرد دخول روسيا المعركة ستتهافت عليه القوات الدولية للدعم والتأييد. وثانيهما: أن الدعم الذي «وُعد به» لم يتحقّق نظراً لحدة الرد الروسي، معتبرين أن ساكاشفيلي ما كان ليتخذ هذا الموقف من دون استشارة الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ويرى محلّلون أن واشنطن تسعى من وراء دعمها لجورجيا إلى تحقيق مصالح عديدة، إذ يعود بعض المراقبين بالذاكرة إلى زيارة وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، في العاشر من تموز الماضي إلى تبليسي، حيث قدمت دعماً واضحاً لجورجيا في ما يتعلق بمسألة إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وانضمام جورجيا لحلف شمال الأطلسي. ويذكر أن الولايات المتحدة دفعت بقوة لضم جورجيا إلى الحلف، ولكن الأعضاء الأوروبيين، بزعامة فرنسا وألمانيا، دفعوا في الاتجاه المعاكس. وانقسم الحلف المؤلف من 26 دولة في اجتماع قمته الأخيرة في بوخارست في نيسان الماضي بعدما قدمت روسيا احتجاجاً شديد اللهجة، معتبرة أن الوعد بتوسيع عضوية «الأطلسي» «خطأ استراتيجي ضخم». ويؤكد مراقبون غربيون أن واشنطن كانت تسعى لوضع جورجيا تحت المظلة الأطلسية لأسباب عديدة، منها تحذير روسيا من تهديد تبليسي والتدخل بمسألتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، فضلاً عن أن جورجيا الأطلسية ستمثّل مساحة أمنية في غاية الأهمية للدرع الصاروخية.
ومن هذا المنطلق لا تستبعد بعض الآراء أن تكون واشنطن قد طلبت من تبليسي اختبار الرد الروسي في عهد مدفيديف والمدى الذي يمكنه الذهاب إليه، وذلك على سبيل القراءة الاستباقية للموقف الروسي في حال إقامة الدرع الصاروخية في بولندا.
أما التحرّك الروسي ضد جورجيا، فيمكن تفسيره من خلال مجموعة من الأهداف الرئيسية التي تسعى موسكو لتحقيقها، أولها على المدى القصير ستحاول روسيا الاتحادية، ومن خلال استخدام آلتها العسكرية، أن تفرض هيمنتها وإبقاء قواتها على الأرض من خلال عملية حفظ السلام التي تقوم بها؛ فالقوقاز منطقة استراتيجية للمصالح الروسية، ما يدفع موسكو إلى حمايتها، مجبرة جميع القوى العالمية على الاعتراف لها وحدها بالدور في هذه المنطقة.
الهدف الثاني، وهو سياسي استراتيجي، يتمثل في منع «الأطلسي» من الاستمرار في خطته الرامية إلى ضم جورجيا. ولم يكن من الغريب أن يتلقى الروس بانزعاج تصريحات الأمين العام للحلف ياب دي هوب شيفر في حزيران الماضي، حين أشار إلى أن الأطلسي سيعقد اجتماعاً له في العاصمة الجورجية تبليسي في شهر أيلول 2008.
ويؤكد المحلّلون أيضاً أن أكبر مخاوف موسكو في الماضي والحاضر والمستقبل يتمحور حول وجود أساطيل الأطلسي عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، في البحر الأسود.
الهدف الرابع يتلخّص في رغبة روسيا الاتحادية في استغلال فرض سيطرتها، المباشرة أو غير المباشرة، على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في المقايضة على الموقف الغربي من قضية استقلال إقليم كوسوفو، وفي التعامل مع جورجيا في المستقبل.
فيما يتمثل الهدف الرابع والأخير في المحافظة على المصالح الروسية المرتبطة بموارد الطاقة في المنطقة وممرات نقلها. وانطلاقاً من كون جورجيا واقعة في منطقة تعرف بممر الطاقة الجنوبي لروسيا، الذي يربط منطقة بحر قزوين بالأسواق العالمية من دون المرور بالأراضي الروسية، (يمر في جورجيا خط أنابيب نقل البترول المعروف بخط باكو ـ تبليسي ـ جيهان)، فإن الروس يبدون حرصاً شديداً على الحضور الفعّال في المنطقة وإيجاد الظروف السياسية والأمنية التي تتلاءم مع خدمة أهدافهم وسياساتهم الخارجية.