انحنى الجنرال ورحل بعد 9 سنوات من الحكم. أتى على صهوة الحصان العسكري ورحل مدنياً. سيرة الأشهر الأخيرة للجنرال السابق تمثّل نموذجاً لمن تخلّى حلفاؤه عنه
شهيرة سلّوم
قدّم الرئيس برويز مشرّف (65 عاماً) استقالته للشعب الباكستاني، بعد عام حافل بالأحداث المفصلية أجبرت الجنرال السابق بمجملها على «خروج مشرّف» من السلطة. أحداث مكّنت خصومه في الداخل من الانقضاض عليه بعد وصولهم إلى السلطة عبر انتخابات عبّر خلالها الشعب أنّه هو الآخر لا يريده، فأوضاعه المعيشية والأمنية في الحضيض، وأكثر من نصفه يتضور جوعاً.
صحيح أنّه رحل «معدوم الشعبية»، إلّا أنّه حين أتى إلى الرئاسة عام 1999 إثر انقلاب عسكري على رئيس الحكومة آنذاك نواز شريف، أيّد الانقلاب الأبيض نحو 70 في المئة من الشعب، أيضاً بسبب «الفساد والفقر»، اللذين خلفتهما حكومتا شريف ونظيرته السابقة بنازير بوتو.
لم يكتفِ مشرّف بالانقلاب على شريف، بل وجّه إليه تهم فساد وسجنه قبل أن ينفيه عقب صفقة برعاية سعودية. وفي عام 2001، انتخب البرلمان الجنرال رئيساً للبلاد على وعد أن يسمح للمحكمة العليا بتّ شرعية انتخابه، وهذا ما لم يحدث بتاتاً.
هكذا رحل شريف عن البلاد، لكن على أمل العودة والثأر من الجنرال. عاد العام الماضي وعادت قبله بقليل بنازير بوتو، خصمه السياسي، التي اتهمها مشرّف أيضاً بالفساد وأجبرها على البقاء خارج البلاد متنقلة بين دبي ولندن، فيما سُجن زوجها للتهم نفسها.
في هذا العام وقع حادثان مفصليان في تاريخ باكستان مهدا لعودة المنفيّين، الأول كان خلاف الجنرال مع الجهاز القضائي ورئيسه، رئيس المحكمة العليا افتكار تشودري، الذي أراد النيل من دستورية حكمه، لكونه يجمع بين القيادة العسكرية والسياسية، فانقضّ عليه الجنرال وأقاله، وأعادته السلطة القضائية، ثم أقاله مجدداً مع نحو 60 قاضياً بعد إعلان حال الطوارئ في تشرين الثاني الماضي، قبل أيام من بت المحكمة في قرار شرعية إعادة انتخابه رئيساً للبلاد في 6 تشرين الأول الماضي.
نزاعه مع رئيس المحكمة العليا فجّر ثورة المحامين التي جعلت من قضية «رحيل مشرّف» أولوية لها لاستعادة «الديموقراطية المسلوبة». وهكذا أصبح مشرّف في صراع مع رجال القانون.
الحدث الثاني كان المسجد الأحمر في إسلام آباد. أمر مشرّف جيشه بأن يحاصر ثم يقتحم المسجد الذي تحصن فيه طلاب الشريعة ومعهم مسلّحون موالون لتنظيم «القاعدة»، قُتل على أثر ذلك مئات الطلاب والمتمرّدين. هذه الحادثة حرّضت قيادات «القاعدة» أكثر عليه، فأُعلن أنّه «عدوّ الإسلام» إن لم يكن الأكثر عداءً. وما زاد الطين بلّة وأسهم في مزيد من التدهور لحكمه، اغتيال بوتو في كانون الأول الماضي. الاغتيال أعاد تسليط الأضواء على فشله في محاربة الإرهاب، وألّب حلفاءه الغربيين عليه، رغم أنّهم لم يفصحوا عن ذلك في العلن.
بُعيد الاغتيال، جرت انتخابات عامة، أوصلت حزب الشعب بزعامة آصف زرداري والرابطة الإسلامية، جناح شريف إلى الحكم. الحكّام الجدد رفضوا المساكنة الإلزامية وقرّروا خوض معركة إقالته، وتسلّحوا بالدستور، مشيرين إلى أن تاريخه حافل بالانتهاكات الدستورية ومسألة توجيه تهمة الخيانة العظمى إليه بديهية.
فضلاً عن المواجهة القانونية، واجه مشرّف وضعاً اقتصادياً صعباً للغاية في البلاد، حيث أصبح أكثر من نصف الشعب يفتقر إلى الغذاء مع أزمة ارتفاع الأسعار، والتضخم وبطء النمو الاقتصادي، وأضحى الباكستانيون تواقون للتغيير، على أمل أن يتمكّن الحكام الجدد من حلّ أزمتهم، والمفارقة أنّهم كانوا قد استنجدوا في السابق بمشرّف كي ينشلهم من الأزمة التي زجّهم فيها الحكّام أنفسهم.
في معركته مع حكومة الائتلاف الجديدة، بقي طرفان على الحياد. طرفان مكّنا مشرّف من الحكم على مدى تسع سنوات، وهما الجيش وواشنطن. حين سلّم مشرّف القيادة العسكرية إلى حليفه أشفاق كياني، الذي يحتفظ بعلاقات جيدّة مع واشنطن، ظن أن ظهره سيكون محمياً. في خضم معاركه السياسية، جرت شائعة تقول إنّ كياني يستعدّ للانقلاب على مشرّف، فضحك الأخير من سخافتها، «فكياني حليفه». لكن المؤسسة العسكرية التزمت الحياد، وأعلنت في مناسبات متعدّدة أنّها «لا تتدخل في الصراع بين القوى».
أما حياد واشنطن، فمصدره الانتقادات الداخلية التي وُجّهت إلى إدارة جورج بوش لتحالفه مع «الديكتاتور» على حساب القوى الديموقراطية، وفشله في الحرب على الإرهاب التي كلّفتها أكثر من 10 مليارات دولار نقلتها إلى سلطة مشرّف من دون أن تسهم في وقف خطر «القاعدة».
حياد الجيش وواشنطن، كان بمثابة رفع الغطاء الشرعي عن حكم الجنرال، وتركه وحيداً منزوع السلاح في المعركة. الاستقالة قد لا تكون النهاية، ربما انتهى الأمر به في النفي الاختياري أو القسري.