أميركا تحاصر «حديقتها الخلفية» لمواجهة التسلل الأوروبي والصيني بول الأشقر
في آذار الماضي، انبرى الأميرال الأميركي جايمس ستافريديس، قائد القيادة الجنوبية ـــ المسؤولة عن تنسيق العمليات العسكرية في أميركا اللاتينية ـــ ليدافع أمام الكونغرس عن جدوى إعادة تفعيل الأسطول الرابع وعن تعيين جوزف كيلمان على رأسه، على اعتبار أنه «الرجل المناسب لمواجهة التحديّات المناطقية».
وفي الإفادة نفسها، يقول ستافريديس إنه قد يكون «من المفيد إلحاق حاملة طائرات ذات محرك نووي بالأسطول». وبعد أقل من شهر، كان الأميرال جيمس ستيفنسون (سلف كيلمان) يشرح أن هذه الخطوة هي «الرسالة الهادفة» لأخصامنا في المنطقة، وخصوصاً أن هذا الأسطول «سيعمل أكثر في المياه البنّية النهرية منه في المياة البحرية الزرقاء».
وفي نهاية شهر أيار، اجتمعت في برازيليا 12 دولة تمثّل مجموع دول أميركا الجنوبية لإطلاق الـ«أوناسور»، وهي أول هيئة إقليمية تضم هذه الدول. وكان من المقرر عقد هذا الاجتماع قبل شهرين في مدينة كارتاخينا في كولومبيا لولا الغارة التي شنتها الأخيرة على قاعدة لـ«الفارك» في المنطقة الحدودية داخل الإكوادور.
شغلت هذه الحادثة اجتماعات دول أميركا اللاتينية، واستغلها الرئيس البرازيلي لويس إيغناسيوس لولا دا سيلفا ليقترح على الـ«أوناسور» إنشاء منظمة دفاع مشترك بين أعضائها. وأقرّ المشروع في قمة برازيليا (بالرغم من معارضة كولومبيا التي عادت والتحقت به قبل أسبوعين) ولقّبته الصحافة مبالغة بـ«ساتو»، أي الأطلسي الجنوبي، على وزن «ناتو» (حلف شمالي الأطلسي).
لكن قبل ساعات من انتهاء اجتماع الأوناسور، أعلنت الولايات المتحدة عن إعادة تشغيل الأسطول الرابع بدءاً من شهر تموز.
الأسطول الرابع
الكثير من رؤساء أميركا الجنوبية اليوم، لم يكونوا قد ولدوا بعد عندما فكّكت الولايات المتحدة عام 1950 الأسطول الرابع، الذي أنشأته عام 1943 خلال الحرب العالمية الثانية لملاحقة الغواصات الألمانية التي قد تحاول التسلل إلى أميركا. حتى أنها لم تُعد تشغيله في أوج الحرب الباردة.
في المقابل، يعرف جميع رؤساء أميركا الجنوبية ـــ وهم بأكثريتهم يساريون ـــ الدور الذي أدّته البحرية الأميركية في التدخل في الشؤون الداخلية للقارة. وقد أطاحت الولايات المتحدة، بين عامي 1898 و1994، 41 نظاماً، بينها 17 مباشرة، وذلك من دون تعداد الانقلاب على هوغو تشافيز في فنزويلا ودورها في إطاحة أرستيد في هايتي في بداية القرن الحادي والعشرين.
ولذلك كان القرار، الذي لم تسبقه أي استشارة، مدعاة قلق الحكام واعتراضهم العلني، وأخذوا يطلبون تباعاً تفسيرات عن هذا «الانفراد» و«العجرفة» و«التدخل» و«التوقيت». وقبل انتشار الحريق، أرسلت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس فوراً مساعدها لشؤون أميركا اللاتينية، توماس شانون، إلى القارة الجنوبيّة.
جولة شانون، الذي يعدّ «الوجه اللطيف والمحاور» للإدارة الأميركية في المنطقة، رافقه فيها الأميرال ستافريديس، وشملت كل الدول المعترضة، مع تعديل في المواقف. إذ بات تفعيل الأسطول الرابع «مجرد قرار إداري» يهدف خصوصاً إلى الإحلال محل الأسطول الثاني ـــ المسؤول سابقاً عن كل الأطلسي ـــ في عمليات توفير الوقود للبواخر. وصار «أسطولاً دفاعياً، بعكس الأسطول الخامس الموجود في الخليج العربي. أي إنه يكتفي بالتنسيق بين القطع الموجودة وليس له قطع خاصة. وعمد المسؤولان إلى تأكيد احترام المجالات البحرية وعدم الدخول إلى الأنهر، وأعادا صياغة مهمات الأسطول لتصبح شبه إنسانية: التنسيق مع البحريات الأخرى وتدريبها، وتقديم خدمات طبية بواسطة مستشفى بحري، والمساعدة في مواجهة الكوارث الطبيعية، ومكافحة تهريب المخدرات وعمليات الهجرة غير الشرعية، وضمان طرق النقل البحري.
الاعتبارات الثلاثة الأخيرة تلامس الحقيقة في بطاقة تعريف الأسطول، إلا أن القرار أبعد من الرواية الرسمية، ويدل ببساطة على أن بحار القارة الجنوبية عادت إلى خريطة الشطرنج الاستراتيجية في هذه الحقبة من التقلّبات الاقتصادية الدراماتيكية. لماذا؟ لأن في هذه المنطقة تتجمع بوفرة موارد آخذة في الندرة في مناطق أخرى، مثل الموارد المائية والمعدنية والغذائية، والآن النفطية، بعد الاكتشافات الحديثة في البرازيل. ومن يرد ضمان فتح الطرق البحرية يوح ضمناً ـــ وبلباقة ـــ أنه قادر على قطعها، إضافة إلى أن الولايات المتحدة تنظر بغير رضى إلى تزايد الشراكات العملاقة مع الصين وتتكلم عن «عدم تكرار السابقة الأفريقية في مجالها الاستراتيجي»، إضافة إلى موضوع تسلّح فنزويلا من جانب الروس، ووصول إيران إلى المنطقة.
إنها محاولة يائسة لاستخراج صيغة منقّحة من عقيدة مونرو (نسبة إلى الرئيس الأميركي الخامس جيمس مونرو)، التي كانت تحرّم التدخل الأوروبي في شؤون القارة الأميركية، والتي قايضت الاعتراف بالاستقلالات الأميركية اللاتينية في بداية القرن التاسع عشر بقبول هذه الدول بالانتداب الأميركي الشمالي. بعدها، صارت الولايات المتحدة توجّه السياسات الخارجية للدول الأميركية اللاتينية وتعمل كوسيط في النزاعات بينها تحت شعار «أميركا للأميركيين».
ومع التبدّلات السياسية التي حصلت في الجزء الجنوبي من القارة، والتي يجمع بينها الابتعاد عن مشيئة الولايات المتحدة، صارت هذه الدول تبحث عن أطر خاصة بها وتلجأ إلى الشراكات الدولية، وأحياناً حتى مع المستعمرين السابقين، لبلورة عقيدة مفادها «أميركا الجنوبية للأميركيين الجنوبيين».


«لعنة» القاعدة البديلة