موسكو ـ الأخبار | تكمن المصلحة الروسية والأوروبية في صمود وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا، ولكن هذا الوقف مبنيّ على اتفاق لم تتطابق بنوده مع الظروف الميدانية، مضافاً إليه التناقض بين مصالح الأطراف كافة التي لا بدّ أن تجتمع، تكتيكياً، على حلّ يقوم خبراء السياسة بتقويمه المرحلي. بناءً عليه، يعتبر الاتفاق خطوة مرحلية تلاقت فيها المصالح التكتيكية لأطراف الصراع، ولا سيما أن الكل بحاجة إلى التقاط أنفاسه كي يقوّم من جديد الواقع الميداني، مع ما تحمله بنود الاتفاق من أوجه تفسير مختلفة.

الكاتب والمفكر السياسي، فاليري بادن، مثلاً، يرى أن الرهانات على الصراع في أوكرانيا كبيرة، وهو يؤكّد أن روسيا لن تتراجع و«لن تترك أبناء قومها يواجهون مصيرهم بمفردهم في الدونباس، ولن تكشف خاصرتها الجيوسياسية». إضافة إلى ذلك، يسجّل الخبراء لقوات الدفاع الشعبي التي أحكمت سيطرتها على عقدة ديبالتسيف، تفوقاً استراتيجياً على القوات الأوكرانية المدعومة بمرتزقة ومقاتلي اليمين المتطرف.
يقول بادن إن قوات الدفاع الشعبي «تمسك اليوم بزمام المبادرة الاستراتيجية ولا مقدرة لكييف على القيام بعمليات هجومية حاسمة في وجهها، وخصوصاً أن ألمانيا والاتحاد الأوروبي لا يرغبان في تفجير الصراع المسلّح في أوروبا».
أوكرانيا وُعدت بـ 40 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، بينما هي بحاجة إلى ما بين 44 و50 ملياراً


مع ذلك، سمح اتفاق مينسك، بحده الأدنى، بتأجيل التراشق المدفعي الواسع النطاق بين أطراف النزاع، ولكن في جانب آخر منه، يعني الاتفاق تأجيل تحديد هوية منطقة الدونباس القانونية، ما يشير بشكل أو بآخر إلى إبقاء وضع الحدود مع روسيا بأيدي قوات الدفاع الشعبي عملياً، حتى لو وجد عناصر أمن عام أوكراني عند عدد من مراكز المراقبة التابعة للجانب الأوكراني.
مدير مركز الدراسات السياسية والاجتماعية ورئيس قسم الأبحاث في معهد دول الكومنولث، فلاديمير يفسييف، توقّع أن تستأنف الحرب لاحقاً في الدونباس، ولكن على مستوى أوسع من قبل كلا الجانبين اللذين يقومان بحشد المتطوعين وإعادة تموضع القوات. فمثلاً قوات الدفاع الشعبي كانت تقاتل، قبل شهر آب، على مستوى كتيبة وهي الآن تحارب على مستوى ألوية.
أما على مستوى المصالح الأوروبية، فيشير يفسييف إلى أن ميركل وهولاند قدما إلى موسكو من أجل إنقاذ بيترو بوروشينكو، لأنهما كانا على علم بمحاصرة قواته في ديبالتسيف، ولخشيتهما من انهيار الجبهة الأوكرانية وتقدّم قوات لوغانسك ودونيتسك، لتوسّع دائرة انتشارها خارج الدونباس.
في المحصلة، تمكن الزعيمان الأوروبيان من إقناع بوتين بقبول ورقة لا تختلف عن «اتفاقية مينسك الأولى»، من حيث عدم الاعتراف، رسمياً، بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الذاتيّتين.
مع ذلك، يحتوي «اتفاق مينسك» الأخير على بعض الإيجابيات التي يرصدها يفسييف ومحلّلون آخرون، وهي إقراره بوجوب تغيير الدستور الأوكراني بموافقة مناطق لوغانسك ودونيتسك، ما يعطي الجمهوريّتين المعلنتين من جانب واحد وضعاً خاصاً، لا يفصلهما عن روسيا من جهة ويبقيهما ضمن تركيبة الخريطة السياسية الأوكرانية.
بحسب يفسييف، فإن روسيا لا تستعجل الأحداث، ولو أرادت الحسم لانهارت أمام قوّاتها الجبهة الأوكرانية فوراً وانتهى الأمر على الأقل بتحرير منطقتي لوغانسك ودونيتسك بشكل كلي. هي لم تتجه إلى هذا الخيار رغم اتهامها بالتدخل بشكل مستمر في شرق أوكرانيا. ولكن ما يفسر قبول روسيا بـ«اتفاقية مينسك الثانية» هو عدم إعطاء ذريعة للولايات المتحدة للتمادي في دعمها لكييف عسكرياً، تنفيذاً لمخططها التوسعي. فلو قرّرت واشنطن تسليح القوات الأوكرانية، بشكل أكبر، لواجهتها موسكو بتسليحٍ يعيد التوازن لصالح المقاومة الشعبية، إلا أن موسكو اختارت الحلّ السلمي كونه أكثر فاعلية.
إضافة إلى ذلك، تحاول فرنسا وألمانيا إنقاذ الوضع ارتباطاً بمصالحهما الخاصة، ولكنهما تدركان جيداً أن ذلك مستحيل على المستوى الاقتصادي. فالمبالغ التي وُعدت بها أوكرانيا، خلال السنوات الثلاث المقبلة، تقارب 40 مليار دولار، بينما هي بحاجة ماسة، الآن، إلى مبلغ يتراوح بين 44 و50 مليار دولار. لذا، من الطبيعي أن لا تفي هذه الأموال باحتياجات أوكرانيا، إذ إن ما تدفعه كفوائد لخدمة الدين يقارب 15 مليار دولار، أي ما يعادل المبلغ الذي من المقرّر أن تتلقاه كدفعة أولى موعودة.
ماذا عن خيار إدخال قوات لحفظ السلام؟
توجد طريقة للحل، والغرب يعرفها جيداً، وهي إدخال قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. ولكن لإدخال هذه القوات، يجب فصل أطراف النزاع بكامل أسلحتها وليس كما هو الوضع الحالي، حيث برزت مع بدء مرحلة سحب الأسلحة الثقيلة، اجتهادات لا تعتبر الدبابات من هذه الأسلحة. علاوة على ذلك، لا يمكن القبول بقوات حفظ سلام تابعة لمنظمة «الأمن والتعاون في أوروبا» أو غيرها من الهيكليات الدولية، ولكن فقط بقوات تابعة للأمم المتحدة، يقدرها يفسيف بـ30 ألفاً على الأقل.
لذا يشكل دخول قوات حفظ سلام فرصة للحلً، إلا أنه يحمل دلالات تشير إلى أن ما يجري في شرق أوكرانيا ليس «عملية مكافحة إرهاب»، وفق ما تزعم كييف، كما أنه ليس حالة طوارئ، بل هو صراع وحرب أهلية بين جبهتين متناقضتي المصالح والتوجه، ما يوحي باعتراف مبطّن بوجود جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وأكثر من ذلك ما يشير إلى اعتراف بقيادتيهما لمنطقتي زاخارتشينكو وبلوتنيتسكي.
وقد كان اقتراح إدخال قوات حفظ سلام وفصل بين أطراف النزاع في البداية، ألمانياً، على أن يتم إرسال عديدها من روسيا وكزاخستان وبيلاروسيا، ولكن الموضوع لم يكن جدياً حينها. أما الآن، فقد بات الموضوع مطروحاً على جدول أعمال البحث مع الجانب الأميركي. وقد تأتي هذه الخطوة بعد الموجة المقبلة من المعارك المتوقعة والمجمدة حالياً بفضل اتفاقية مينسك المرحلية الطابع.
وبالتوازي مع كل ذلك، يسود الحديث حالياً عن توسيع لوائح العقوبات على روسيا من دون فرض عقوبات جديدة، ولكن ذلك لا يعني أنه لن يتمّ ذلك في ظل موجة المعارك المرتقبة والتي من المتوقع أن تكون أكثر اتساعاً وانتشاراً ووحشية، فقد تخرج المواجهة عن نطاق الدونباس لتطال مناطق أخرى شرق أوكرانيا مستقبلاً.
وهذه العقوبات يفترض أن تطبّق فقط في حال ثبوت تورط روسيا، وفق المعايير الغربية. ولكن في المقابل، أنجزت روسيا استعداداتها تحسباً لامتصاص صدمة العقوبات الجديدة التي ستكون أكثر صعوبة من سابقاتها. وبناءً على ذلك، فإن التهديد بعزل روسيا عن نظام «سويفت» المصرفي العالمي، لن يكون له تأثير فعلي لأنه تمّ تأسيس بديل منه، فقد أجرت موسكو تجربة للتعامل مع نظام «سويفت» المصرفي على المستوى الداخلي، وربطت به ما يزيد على خمسين مؤسسة مالية.
في المحصلة، لا تصب الحالة الراهنة في مصلحة الولايات المتحدة، وخصوصاً أن روسيا تبدو مرتاحة على وضعها وتلعب على أرض ملعبها في أوكرانيا. كما أن استمرار الوضع الحالي ثلاث سنوات أخرى يعتبر أمراً إيجابياً بالنسبة إليها، فكلّما طال أمد استمرار الوضع على ما هو عليه، ازداد ضعف سلطة كييف على الأقاليم الأوكرانية الأخرى وتضاءلت رغبات الغرب في الاستثمار في مساعدتها.




كييف تطالب بـ «قوة لحفظ السلام»

بعد الانتكاسة العسكرية التي ألحقها الانفصاليون بطردهم القوات الأوكرانية من مدينة ديبالتسيف، طلبت السلطات الأوكرانية إرسال قوة حفظ سلام بتفويض من الأمم المتحدة في الشرق، وهو ما رفضه الانفصاليون. واعتبرت وزارة الخارجية الروسية أن تفاصيلها غير واضحة. في المقابل، ندّد قادة روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا بانتهاك وقف إطلاق النار في الشرق الانفصالي، إثر محادثات هاتفية بينهم، فيما أعلن الجيش الأوكراني أن أكثر من 90 جندياً أوكرانياً أسروا، في حين لا يزال 82 في عداد المفقودين بعد دخول الانفصاليين إلى مدينة ديبالتسيف. في هذه الأثناء، بدأت روسيا بإمداد مناطق في شرق أوكرانيا خاضعة لسيطرة الانفصاليين بالغاز، بعد إعلانهم قطع شركة الغاز الأوكرانية الإمدادات عنهم، بحسب ما أعلن مدير شركة «غازبروم». وعلى الأثر، أعلن رئيس «نفتوغاز» الأوكرانية أن كييف لن تتحمل ثمن الغاز المرسل مباشرة إلى الشرق. وقال ألكسي ميلر إنه «منذ الساعة الرابعة بعد الظهر (13,00 ت غ) يوم 19 شباط، تسلّم غازبروم 12 مليون متر مكعب يومياً من الغاز إلى أوكرانيا، بما في ذلك عبر محطتي بروخوروفكا وبلاتوفو» وهما نقطتا دخول الغاز الروسي إلى أوكرانيا، إحداهما في دونيتسك والأخرى في لوغانسك.
(الأخبار، رويترز، أ ف ب)