قبل سنوات، كانت «الفارك» أقدم وأكبر منظمة كفاح مسلح في أميركا اللاتنية. إلا أنها ما لبثت أن بدأت بالتقهقر تحت ضربات جيش الرئيس الكولومبي ألفارو أوريبي المدعوم أميركياً بـ «خطة كولومبيا»، ما يدفع إلى التساؤل عن مسار التحولات التي وضعت ديناصور «الفارك» أمام خطر الانقراض، وعن الفرص التي أضاعتها وما بقي لها من خيارات
بول الأشقر

مثّلت عمليّة تحرير الرهائن من أيادي منظمة «الفارك» مطلع الشهر الجاري، نقطة تحوّل مفصليّة في مسار المنظمة الثورية، سبقتها العديد من عمليات التصفيّة التي استهدفت قادتها، ما وضعها أمام تساؤلات عن مستقبل تلك المنظمة الموغلة في التاريخ.

النشأة

البداية كانت عام 1948، حين حمل مانويل مارولاندا السلاح بعد اغتيال المرشح الليبرالي اليساري لانتخابات الرئاسة خورخي إليزير غايتان. اغتيال أدّى إلى موجة عنف في الأرياف، استمر عشر سنوات، بين مجموعات دفاع ذاتي فلاحية ليبرالية ومحافظة حملت اسم «لا فيولينسيا»، ونتج منها مقتل مئتي ألف كولومبي.
نهاية مؤقتة للمواجهات كانت عام 1957، حين اتفق الحزبان الليبرالي والمحافظ على تقاسم السلطة والتناوب عليها خلال أربع ولايات رئاسية، عُرض خلالها عفو عام عن المقاتلين، لم تبق بعده سوى مجموعتين ليبراليتين عاصيتين، واحدة يتزعمها مانويل مارولاندا والأخرى سيرو تروخييو.
خلال فترة «التوافق»، استطاع الشيوعيون التوغل في المناطق الريفية بعدما عملت كوادر مثقفة، بينها ياكوبو أريناس، على تنظيم صفوف الفلاحين، ما أثار حفيظة المحافظين الذين حرّضوا الجيش على ما سموه «الجمهوريات المستقلة». تحريض أدى إلى حملة عسكرية في 27 أيار عام 1964، حين هاجم 16 ألف جندي يغطيهم الطيران، ويدعمهم مستشارون أميركيون، «جمهورية» ماركيتاليا، ما دفع العشرات من المقاتلين إلى الفرار شرقاً.
«معركة ماركيتاليا» تحوّلت، حسب التأريخ الرسمي لـ «الفارك»، ملحمة تأسيسية قام بها ثمانية وأربعون مقاتلاً: مارولاندا وتروخييو وعدد من أتباعهم الفلاحين وبعض الشيوعيين، وبينهم أريناس.
انسلخوا مجبرين عن قاعدتهم الفلاحية، وصار عليهم تدبير حياتهم الجديدة في ما أصبح حرب عصابات تحت مسمى «الكتلة الجنوبية»، التي تحوّلت في منطقة سوماباز عام 1966 إلى «الفارك»، التي تعني «القوات العسكرية الثورية في كولومبيا». التأسيس ترافق مع نظام داخلي وخطط عسكرية وهدف «تسلّم السلطة مع الطبقة العاملة وكل الشغيلة»، وعيّن مارولاندا قائداً عاماً وتروخييو نائباً له. انقسمت المنظمة الوليدة إلى مجموعتين، تولت الأولى بزعامة تروخييو العودة إلى السلسلة الوسطية، فيما بقيت مجموعة مارولاندا في مكانها. لم يمض وقت طويل حتى قتل تروخييو مع غالبية رجاله في كمين. حادثة مهدت عام 1968 لمؤتمر «إعادة التأسيس»، الذي رسم أصولاً جديدة للأعمال العسكرية تقوم على الحركة الدائمة والسرية المطلقة والتثقيف السياسي والعسكري.
وراء الكلمات، بصمات الثنائي مارولاندا وأريناس. بصمات صداقة وشراكة جمعت خلال 35 سنة «قلب الفارك بعقلها». الأول زعيم فلاحي له سلطة كبيرة على رجاله وحدس عسكري أسطوري، والثاني شيوعي متخصص بالتنظيم وبالتثقيف.
تقرر عام 1970 العودة إلى السلسلة الوسطية والتوسع باتجاه مناطق أمازونية جديدة، هذه المرة بقيادة مارولاندا، الذي أسس عام 1974 القيادة العليا من ستة مقاتلين، جميعهم أتوا من ماركيتاليا. مقاتلون أسسوا في وقت لاحق 6 جبهات، وجمعهم عام 1978مؤتمر، بعدما أصبحوا ألف مقاتل ومئة وعشرين ضابطاً. المؤتمر كان لإقرار قواعد الإمرة والعقوبات والعلاقات بين الجنسين، وخصوصاً أن نسبة المقاتلات مرتفعة.

جيش الشعب

عام 1982، صاروا ثلاثة آلاف مقاتل و27 جبهة، والتحق بهم عدد من كوادر الشبيبة الشيوعية الهاربين من القمع، وبينهم زعيمهم الحالي ألفونسو كانو. في العام نفسه، تحولت «الفارك» من مجموعة سرية هامشية إلى لاعب وطني و«جيش شعبي». صارت «الفارك ـــــ جيش الشعب».
ولكن هذه النقلة النوعية لها متطلباتها التنظيمية، ومارولاندا وأريناس عملا لكي تنطبق مواصفات الجيش النظامي على «الفارك» لتستفيد يوماً من ضمانات معاهدة جينيف. لكن هذه المتطلبات لها كلفتها المالية، فكان لا بد من عائدات، جاءت من «الضرائب الثورية» التي يحصّلونها من عمليات الخطف أو التي يفرضونها على المؤسسات الاقتصادية أو مزارع الكوكا أو مختبرات تحويلها إلى كوكايين.
التحول داخل «الفارك» عام 1982، ترافق مع تحول سياسي في كولومبيا، حين انتخب المحافظ بليزاريو بيتانكور رئيساً. كان بيتانكور مثقفاً منفتحاً، فاقترح التفاوض مع جميع فصائل الكفاح المسلح. وبضغط من الحزب الشيوعي، وقعت «الفارك» اتفاق هدنة مع الحكومة، وشاركت في تأسيس حزب سياسي علني مع الحزب الشيوعي وقيادات مناطقية ومستقلين باسم «الوحدة الشعبية».
إلا أن المفاوضات والهدنة لم تدوما طويلاً، لأن الأوليغارشية والجيش لا يشاطران بيتانكور آراءه الانفتاحية. ومع وصول خلفه فيرجيليو باركو، بدأت تصفية منهجية لكوادر «الوحدة الشعبية»، كلفتها ثلاثة آلاف قتيل بين عامي 1986 و1991، إضافة إلى وفاة أريناس عام 1990.
أحداث قرر بعدها مؤتمر «الفارك» عام 1993 قطع العلاقات مع الحزب الشيوعي والعودة إلى المبادرة العسكرية. فنشطت المنظمة في جميع أرجاء البلد الذي قسمته إلى سبع كتل جغرافية، والكتلة كناية عن خمس جبهات على الأقل. وصارت تعدّ عشرة آلاف مقاتل ونجحت في مضاعفة هذا العدد في نهاية التسعينات.
وبرز على ساحة الصراع لاعب جديد هم «الباراميليتاريس»، الذين نشأوا خصيصاً لمحاربة «الفارك» ولمنافستها على الأراضي والموارد والولاءات، وهم في الأساس اتحاد ميليشيات ملّاكي الأراضي وفرق قتل تابعة لكارتيلات المخدرات ويحظون بدعم جزء من الطبقة السياسية، بينهم الرئيس الحالي ألفارو أوريبي ـــ حاكم ولاية ميديين آنذاك ــ ومن قيادة الجيش التي توكلهم بالمهمات القذرة.
و«الفارك» لا ترى في انفلات «هذا الوحش» إلا تأكيداً على ما تسمّيه «المواجهة المحتومة». ونمت عدداً وعدّة وشراسة. إلا أن الظروف الجديدة تضاعف أيضاً المتطلبات بالموارد، ما اضطر «الفارك» إلى توسيع هامش تعاطيها مع اقتصاد المخدرات، فدخلت إلى أسواق الزراعة والتصنيع والتهريب، وصارت تحدد كوتا من عمليات الخطف على كل جبهة، ما أوصل المعدل إلى ثلاث حالات خطف يومية.
عام 1998، نظرت «الفارك» إلى وصول المحافظ، أندريس باسترانا، إلى الرئاسة بعين الرضى، ولا سيما أنه اتصل بها قبل الانتخاب. وفور انتخابه، سحب القوات المسلحة من منطقة تمتد على أربعين ألف كيلومتر مربع لاستضافة مفاوضات تخللتها قمتان بين مارولاندا وباسترانا. ولكن مناورات «الفارك» عرقلت المفاوضات ما أبعد الرأي العام عن باسترانا، ودفعه إلى قطع التفاوض وإعادة الجيش إلى المنطقة العازلة.
فتحت هذه التطورات المجال واسعاً أمام ظاهرة ألفارو أوريبي، وهو سياسي ليبرالي بنى سيرته السياسية على شعار هزم «الفارك» بتعابير تذكر بـ«الباراميليتاريس». انشق عن حزبه لخوض الانتخابات وفاز بها عام 2002 من الدورة الأولى، ما مثّل سابقة في تاريخ كولومبيا.

متى وكيف فوّتت الفارك القطار؟

فوّتت «الفارك» فرصة الاتفاق مع باسترانا. وأتى أوريبي ليقطف ثمار «خطة كولومبيا»، وتكاملت طموحاته مع مشاريع جورج بوش تقريباً كما حصل مع أرييل شارون بعد عملية أيلول 2001. ونجح أوريبي في تجهيز الجيش وتحديثه ليضم نصف مليون عسكري ويستهلك سبعة في المئة من الناتج القومي، إضافة إلى المعونات الأميركية.
وبعد سحب «الباراميليتاريس» من الصراع، إثر اتفاق عقده معهم مقابل حلّ صفوفهم، وبعد فتح مفاوضات مع جيش التحرر الوطني ـــــ جرت في كوبا وهي معلقة الآن ـــــ استطاع أوريبي تركيز كل جهوده على محاربة «الفارك».
ونجح أوريبي في تقليص صفوفهم خلال السنوات الست الأخيرة من نحو 20 ألفاً إلى 11 الف مقاتل. ويقدّر أن 2500 منهم، من دون حسبان المجندين الجدد، تركوا المنظمة عام 2007، وهو رقم قياسي، والأخطر أن نسبة المقاتلين القدامى بينهم وصلت إلى الثلث. وقضى الجيش على خمس جبهات من أصل الـ 72 جبهة التي كانت فاعلة عام 2002 ـــــ والجبهة تضم نحو 150 مقاتلاً ـــــ وألحق ضربات بنحو 33 منها. كما نجح بشكل عام في إبعاد «الفارك» من أحياء المدن الكبيرة وضواحيها، وفي السيطرة على بعض معاقلهم التاريخية وفي تعطيل المواصلات بينهم ـــــ وهو إنجازه الأكبر ـــــ ومحاصرة طرق تموينهم. ولجم عمليات الخطف التي تراجعت إلى 120 عملية طوال عام 2007.
ولمواجهة فقدانها المبادرة، قررت «الفارك»، خلال مؤتمرها التاسع الذي عُقد السنة الماضية، أي بعد 14 عاماً على المؤتمر الثامن ومن دون أن يجزم أحد إذا كان قد عُقد بالفعل أو فقط بالمراسلة، اعتماد سياسة الارتداد والعودة إلى الحرب المتحركة، حرب الفرق الصغيرة التي «تضرب وتهرب»، وتعتمد على القنابل اليدوية وزرع الألغام. وهكذا نجحت «الفارك» في إبراز عدد ثابت من العمليات ولو كانت أكثر تواضعاً. وقد أنشأت ما سمته «كتلة متحركة»، وهي كتيبة كبيرة لا تركن إلى مكان محدد، كما طورت وسائل لتعاضد الجبهات داخل الكتلة الواحدة. والمناطق الوحيدة التي نمت فيها «الفارك» خلال السنوات الأخيرة هي المناطق الأمازونية والحدودية، القليلة السكان ومناطق زراعة نبتة الكوكا.
وعام 2008 هو حتى الآن عام أسود لـ «الفارك»، إذ إضافة إلى وفاة المؤسس مارولاندا، خسرت السكريتاريا للمرة الأولى في تاريخها عضوين: راوول ريّس في الغارة على الإكوادور وإيفان ريوس على يد فرقة حراسه، التي نجح الجيش في شرائها. كما خسروا خمسة من أعضاء القيادة المشتركة الـ 24 منذ عام 2007، اثنان اعتقلا واثنان قتلا والخامسة ـــــ وهي المرأة الوحيدة في القيادة المشتركة ـــــ سلّمت نفسها للجيش.
الأصعب من وضعهم العسكري القابل للاستمرار، ولو على تراجع في غياب تطورات دراماتيكية، هو أن الشكوك تحوم حول وضعهم السياسي والتنظيمي المتدهور: الضربات المتتالية التي تلقوها، وآخرها عملية إنقاذ أثمن رهائنهم، تدل على المسافة التي قطعها الجيش الكولومبي استخبارياً، وهو مصدر تفوقه الحقيقي، بعدما كانت «الفارك» قبل سنوات هي المبادرة في عمليات خرق الجيش أو الشرطة. وعزلتهم السياسية الخانقة تفرض على السكريتاريا، وهي مؤلفة للمرة الأولى من ستة أبناء مدن التحقوا بالفارك خلال الثمانينات، أجوبة وخيارات لا مفر منها وأحلاها مرّ.
لا يسمح ميزان القوى العسكري لـ«الفارك» باستعادة المبادرة العسكرية ولا بفرض شروطها للتفاوض. وهي تعاني عزلة متزايدة على الصعيد الداخلي والخارجي. واليسار المؤسساتي الذي نجح في تأليف أول قوة معارضة لأوريبي يريد أبعد مسافة ممكنة عن هذا الديناصور الذي جذّر في كولومبيا حكم اليمين المتطرف في أميركا جنوبية يسارية. وعلى المنوال ذاته، صار رؤساء القارة، وحتى أخصام أوريبي مثل هوغو تشافيز أو رفاييل كوريا، يرون في هذا الورث الثقيل «حجة» تستخدمها الولايات المتحدة للتدخل في الشؤون الداخلية للقارة.
والأنكى من ذلك، فإن «الفارك» لن تحصل على ترضية سياسية في أي تفاوض، كما حصل في تسوية التسعينات أو كما كان من الممكن أن يحصل بينها وبين باسترانا، وخصوصاً أنه لم يعد أحد يعرف ما هي الأسباب السياسية التي تقاتل من أجلها. ستدور المفاوضات على شروط العفو ومداه في مقابل التخلي عن السلاح، ومن المرجح أن ينطبق عليها نموذج الاتفاق مع «الباراميليتاريس» في صيغته الأخيرة الذي يتضمن عقوبات سجن وواجبات تعويض عن الضحايا وعفواً مشروطاً بعدم مخالفتهم القوانين مجدداً.
وتتأرجح السيناريوهات المتداولة بين ثلاثة: استمرار الصراع وتفسخ صفوفها ومفاوضات شبه استسلامية، ومن المحتمل أن تعيش «الفارك» مزيجاً من هذه الاحتمالات بانتظار تبلور الصورة. ومن الممكن أن تراهن على شراء الوقت وانتظار خلف أوريبي، ولكن الوقت يلعب ضدها، والآتي قد يكون أصعب، فضلاً عن أنْ لا أحد يضمن اليوم أن أوريبي لن يجدد مرة ثانية، علماً أن تجديده المرة الأولى أربك «الفارك» التي كانت أصلاً تنتظر خلفه.
قرار التخلي عن السلاح هو دائماً أصعب قرار لمجموعة كفاح مسلح لأنه ينهي انتظام بشر بمصالحهم وعاداتهم. شروط هذه النقلة تتطلب قيادة لا شكوك في شرعيتها وشبكة علاقات سياسية واجتماعية تحضن قرارها. كيف ستفعل «الفارك» وذلك بعدما فقدت هذه الشروط في السنوات الأخيرة بعد مراكمتها خلال عقود طويلة؟


استنجاد بأورتيغا

وجّهت قيادة «الفارك» رسالة إلى رئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا تشكره فيها على «تضامنه الثابت» معها وتطلب منه لقاءً عاجلاً «للتداول بأمور السلم والحرب».
الرسالة كانت قبل أيام قليلة من عملية الجيش الكولومبي للإفراج عن الرهائن، تتحدث فيها سكريتاريا «الفارك» عن «الظروف الصعبة» التي تمرّ بها المنظمة بعد وفاة مؤسسها مارولاندا، وتعبّر عن امتنانها لنيكاراغوا التي قدمت اللجوء السياسي إلى الناجين من الغارة التي نفذتها كولومبيا على معسكر راوول ريّس «المؤقت» في الإكوادور.
وكان أورتيغا الزعيم اليساري الوحيد الذي نعى مانويل مارولاندا فور إعلان نبأ وفاته. وتؤكد الرسالة أن التبادل الإنساني كان دائماً بالنسبة إلى «الفارك» «المدخل المنطقي لإدراك السلام في كولومبيا»، لكنها تعبّر عن شكوكها في إمكان حصول هذا الإنجاز مع أوريبي الذي «أثبتت الوقائع أنه غير مبرمج من جانب الأميركيين لا للتبادل الإنساني ولا للسلام». وتضيف إن «حكومة جديدة منبثقة من اتفاق وطني قادرة على إيجاد حل سياسي للصراع».