مجرم حرب في نظر المجتمع الدولي، وبطل قومي في عيون أنصاره، انضم أخيراً إلى المعتقلين بتهم ارتكاب جرائم إنسانية في يوغوسلافيا السابقة، بعد نحو 13 عاماً من الملاحقة.
معمر عطوي
يصنّف أنصار رادوفان كراديتش، القائد العسكري السابق لصرب البوسنة بأنه بطل وقف في وجه تقسيم يوغوسلافيا، ومدافع عن بني قومه ووحدة أراضيهم في وجه مشروع أميركي ــــــ غربي يستهدف تقسيم البلقان.
وينطلق هؤلاء في مناصرتهم له إمّا من منطلق قومي «شوفيني» أو من منطلق العداء للغرب ولأميركا مع تجاوز وجع الضحيّة، التي راهنت على «رمز الإمبرياليّة العالمية».
«القائد» الطبيب المولود عام 1945 في قرية جبلية صغيرة في الجبل الأسود، هو أحد أكثر الأسماء المطلوبة لـ«العدالة الدولية»؛ فجريمته ليست بالأمر السهل مهما جرى التخفيف من وهجها.
قد يكون عدد ضحايا كراديتش، وفق إحصائيات الغرب، محاولة تستهدف تضخيم خطر «العدو» الذي يقف في وجه تحقيق مصالح الغرب في البلقان. لكن بأي حال، لقد اتُّهم الطبيب، الذي فضّل «التطهير العرقي» على رسالته الإنسانية، مرتّين من جانب المحكمة الدولية الخاصّة بالنظر في جرائم حرب البوسنة أوائل تسعينيات القرن الماضي.
يبدو واضحاً أن نشأة الرجل كانت في مناخات «عنصريّة»، إذ كان والده فوك، ينتمي إلى حزب «شتنكس» القومي الصربي الذي حارب النازية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها وقف ضد الأنصار اليساريين للرئيس السابق جوزف تيتو.
عاش القائد القومي طفولته في ظل غياب الوالد الذي كان مسجوناً إبان الحقبة الشيوعيّة. لكن هذا الحرمان من عطف الأبوة لم يمنعه من أن يكون وفيّاً ويعمل بجهد كبير، حسبما تذكر والدته، التي تشير إلى أنه كان يساعدها في الأعمال المنزلية وفي زراعة الأرض، وأنه كان متعاوناً مع زملاء الدراسة.
ربما دفعه حبّه للمساعدة، إلى اختيار مهنة الطب، التي أهّلته ليكون معالجاً نفسيّاً لحالات العصاب والكآبة، في أحد مستشفيات سراييفو، حيث تخرّج عام 1960، وحيث التقى أيضاً زوجته ليليانا.
لكن هذه الرسالة، إلى جانب حبّه للشعر وكتابته، لم تمنعاه من خوض غمار السياسة بتشجيع من الكاتب القومي الصربي دوبريتشا كوشيتش، وعرف عنه مصادقته للمثقفين القوميين.
في العمل السياسي، كانت لكراديتش مساهمته في تأسيس حزب الخضر وساعد على تأسيس الحزب الديموقراطي الصربي عام 1990، الذي جاء ردّ فعل على صعود الأحزاب القوميّة الكرواتيّة والبوسنيّة.
ومضى كراديتش في تحديّه لقرارات الغرب، فأعلن جمهورية الصرب البوسنية المستقلة وعاصمتها ساراييفو، وعيّن رئيساً لها، حين اعترف المجتمع الدولي بالبوسنة والهرسك دولةً مستقلة بعد انهيار يوغوسلافيا.
لكن تحوّل مسار الأمور لمصلحة حلف الأطلسي عام 1996، أجبر كراديتش على الاستقالة من منصبه الرئاسي، ليبدأ رحلة الهروب التي استمرت 13 عاماً، فيما استسلم بعض الجنرالات الذين رافقوه.
ويرجّح أنه اختبأ في منطقة جبلية جنوب شرقي البوسنة حيث استمرت بعض الميليشيات في حمايته. وقالت تقارير غير مؤكدة إنه تخفّى في هيئة قس أورثوذكسي في دير في منطقة نائية. ونقلت تقارير أخرى أنه كان يعمل متخفيّاً في عيادة للطب البديل.
وتمكّن خلال هذا الهروب من نشر كتاب بمساعدة من أحد أعوانه السابقين، ميروسلاف توهولج.
لعل الظهور الاستثنائي للرجل خلال هذه السنوات كان مرتيّن فقط، رصدهما المحقّقون عام 2005. إذ ظهر في المرة الأولى مع زوجته ليليانا جنوب شرقي البوسنة، وفي المرّة الثانية مع شقيقه لوقا أثناء وفاة والدتهما بالسرطان.
«أسامة بن لادن الأوروبي»، بحسب وصف دبلوماسي أميركي، كان محلّ اتهام محكمة جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة في لاهاي، في تموز 1995 لإعطائه الإذن بإطلاق النار على المدنيين أثناء حصار سراييفو، الذي استمّر 43 شهراً. وباستعمال ما لا يقل عن 280 من رجال حفظ السلام دروعاً بشرية.
ووجّه إليه الاتهام بالإبادة الجماعية مرة ثانية بعد ذلك بأربعة أشهر عن تنظيم مجزرة «قتل فيها 8000 مسلم تقريباً» في سربرنيتشا (شرق البوسنة).
في ظل هذه الملاحقة المستمرة له، لم تسلم عائلته من الضربات «الأطلسية» إذ أغارت قوات الحلف في اوائل عام 2007، على منزلي ابنَتيه ساسا وسونيا، معللّة ذلك حينها بالاشتباه في أن أولاد المتهم ينتمون إلى الشبكة الأمنية التي تحميه.
لم يبدِ كراديتش، الذي أرخى لحيته وصبغ شعره باللون الأسود، أي مقاومة خلال اعتقاله في حافلة للنقل العام في بلغراد.
كان يحمل حقيبة سفر ويُعتقد أنه يستعد لمغادرة المدينة، مع إدراكه التام أن اعتقاله، يمثّل جواز سفر لبلاده نحو عضوية الاتحاد الأوروبي.