أرنست خوريتركيا واحدة من الدول التي تتحكّم بسياساتها عقيدة تجد في إعادة كتابة التاريخ وتفسيره سنداً رئيساً لها. فالمعضلة التاريخية التي يصرّ القوميّون وكذلك الإسلاميّون (وإن بمنسوب أقل) على عدم تقديم تنازل بشأنها، هي «الإبادة» بحقّ أرمن الحرب العالمية الأولى. لكن يبدو أنّ «موجة التغيير» التي جلبها حزب «العدالة والتنمية» معه منذ عام 2002 إلى منطق ومفهوم علاقات تركيا مع الخارج، تسير في طريقها لأن تطال التابو الأكثر تعقيداً بالنسبة إلى أنقرة. فمنذ وصوله إلى الحكم، سعى حكّام تركيا إلى فتح صفحة جديدة مع الجار ــــ العدوّ الأرمني، لكن من دون سلوك درب العلاج بالصدمة على نحو ما فعلوه مع العراق مثلاً. خطوات انفتاحية جميعها لم يرتقِ إلى مستوى تطبيع علاقاتهما الدبلوماسيّة المقطوعة نهائياً منذ عام 1993.
عقبتان حالتا دون تطوّر كبير في محاولات رأب الصدع التركي ــــ الأرمني: الإبادة الأرمنيّة والعداء الآذري ــــ الأرمني. الأولى عقائديّة تغرز عميقاً في التاريخ والوجدان، وبالتالي هي أكثر تعقيداً بما لا يقاس بالنسبة إلى الثانية، التي بدورها تحمل طابع التكتيكي المرحلي القابل للتفاوض والمساومة على إقليم ناغورني كاراباخ.
ويوم أوّل من أمس، طرأ جديد رأت فيه بعض الصحف التركية خطوة تمهيديّة لإقدام أنقرة على إعادة صياغة علاقة جديدة مع أرمينيا. فقد أُقيل رئيس «مؤسّسة التاريخ التركي»، يوسف هلاشوغلو، من منصبه الذي يحتلّه منذ 1993. والمؤسسة الحكوميّة تلك تُعَدّ الرافد الأهم للأفكار القوميّة المتشدّدة. وهلاشوغلو قد يكون أبرز اسم أكاديمي للتنظير لـ«كذب ادّعاءات الإبادة الأرمنية» وقائد حملات الهجوم على أيّ محاولة للمسّ بنكران حصول مجازر بحقّ الأرمن في عام 1915.
وربطت كلّ من صحيفتي «توركيش دايلي نيوز» و«زمان» بين الإقالة المفاجئة للرجل من منصبه من جهة، والتقارب الحاصل بين تركيا وأرمينيا. تقاربٌ يعيش ذروته هذه الأيّام مع المفاوضات السرية الجارية بين وفدين رسميين من البلدين في سويسرا، وسيصل إلى مستوى جديد غير مسبوق إذا استجاب الرئيس عبد الله غول لدعوة نظيره الأرمني سيرج سركيسيان لحضور مباراة كرة قدم في أيلول المقبل في يريفان بين منتخبي البلدين.
لا يتوهّم أحد أنّ تركيا ستعترف غداً بارتكاب السلطات العثمانيّة إبادة بحقّ الأرمن، ولا أنّ البلدين سيقعان قريباً في غرام متبادل. غير أنّ الأكيد أنّ خطوات إقالة هلاشوغلو وإجراء مفاوضات ثنائيّة وحضور مباريات كرة قدم جنباً إلى جنب، خطوات تكسر جليداً، وإن لم تنزع حقداً موغلاً في التاريخ.